الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يغفر ذنبك، وأن يلهمك رشدك، وأن يقيك شر نفسك، وأما ما سألت عنه، فنبدأ بجوابه أولا، ثم نتناول بعد ذلك أصل الإشكال وهو الأهم، والجواب يتضح ببيان أن التوبة والاستغفار كل منهما سبب مستقل للمغفرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: موانع لحوق الوعيد متعددة، منها: التوبة, ومنها: الاستغفار, ومنها: الحسنات الماحية للسيئات, ومنها: بلاء الدنيا ومصائبها, ومنها: شفاعة شفيع مطاع، ومنها: رحمة أرحم الراحمين. اهـ.
ومن الفروق بينهما أن التوبة النصوح: تصلح ماضي العبد وحاضره ومستقبله إذا تحققت شروطها، فشرط الندم يصلح الماضي، وشرط الإقلاع عن الذنب يصلح الحاضر، وشرط العزم الصادق على عدم العود يصلح المستقبل، وأما الاستغفار فإنه يقصد به أصالة إصلاح الماضي، فينفع بمجرد اقترانه بالندم والخوف من لحوق الوعيد، وهو في حقيقته نوع من الدعاء، فهو سؤال المغفرة، فيشترط له ما يشترط في الدعاء، كحضور القلب وصدق الطلب والافتقار إلى الله، وليس معنى هذا أن استغفار المستهتر بالذنوب المصر عليها يزيل ذنبه، بل لا يكاد مثل هذا أن ينفعه استغفاره، لأن قلبه غافل عن الله، لاه بمعاصيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه. رواه الترمذي وأحمد، وحسنه الألباني.
قال المناوي في التيسير: أي لا يعبأ بسؤال سائل مشغوف القلب بما أهمه من دنياه، قال الإمام الرازي: أجمعوا على أن الدعاء مع غفلة القلب لا أثر له. اهـ.
والمقصود أن العبد قد يقع في الذنب وهو كاره له، راج لتركه، راغب في ضده، ولكن لا يبلغ به حاله أن يتوب توبة نصوحا فيتردد بين ندم واستغفار وأعمال صالحة، وبين غلبة الهوى والوقوع في المعاصي، فمثل هذا ينفعه استغفاره، ولكن انتفاعه دون من يتوب توبة نصوحا!! وتقبل منه أعماله الصالحة ولكن ثوابه لا يكون كثواب المستقيم على طاعة الله تعالى، وراجعي في قبول أعمال المذنب الصالحة الفتويين رقم: 192369، ورقم: 198459.
وعلى أية حال، فليس هناك مجال للقنوط من رحمة الله، فالذنوب المقترنة بالخوف والندم والاستغفار وإتباعها بالحسنات الماحيات، أقرب إلى العفو، وصاحبها متعرض لمغفرة الله وتوفيقه له لتوبة صادقة، قال تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم {التوبة: 102}.
قال السعدي: فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة، بالأعمال السيئة، من التجرؤ على بعض المحرمات، والتقصير في بعض الواجبات، مع الاعتراف بذلك والرجاء بأن يغفر الله لهم، فهؤلاء: عسى الله أن يتوب عليهم. اهـ.
وهنا لا بد من التذكير بأن اليأس من رحمة الله وإن كان لا يجتمع مع الإيمان، إلا أن الأمن من مكر الله أيضا سبيل للهلاك والبوار، فكما قال تعالى: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون {يوسف: 87}.
فقد قال أيضا: أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون {الأعراف: 99}.
ولذلك ننبه على أن الذنوب يحرم بها العبد من خير عظيم، فشؤم الذنب وإلف المعصية قد يحول بينه وبين الطاعة والتوبة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. رواه أحمد وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وصححه المنذري وحسنه العراقي والبوصيري والأرنؤوط.
وقد ذكرابن القيم في كتاب الداء والدواء من آثار الذنوب والمعاصي: أن المعاصي تزرع أمثالها، وتولد بعضها بعضا، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومنها: أنها تضعف القلب عن إرادته، فتقوي إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية، فلو مات نصفه لما تاب إلى الله، فيأتي بالاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية مصر عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه، وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك. اهـ.
وأما أصل الإشكال ـ وهذا هو الأهم ـ فاعلمي ـ يرحمك الله ـ أن الله تعالى إنما خلقنا ليبتلينا، وهذا الابتلاء ـ أي الامتحان والاختبار ـ يميز بين الناس، أيهم يحسن وأيهم يسيء؟ أيهم يقدم مرضاة الله تعالى على الدنيا وزينتها وشهواتها؟ وأيهم يؤثر هوى نفسه على مرضاة ربه؟ قال تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا {الكهف: 7}.
وقال: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور {الملك: 2}.
وقال: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب {آل عمران: 179}.
ومن سبل هذه الامتحان ما يشير إليه قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد {آل عمران: 14ـ 15}.
قال السعدي: يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة، لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها... فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين:
قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي: وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.
والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودون منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها: ذلك متاع الحياة الدنيا ـ فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم... وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار، والأنهار الجارية على حسب مرادهم، والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما، واعرض على قلبك المفاضلة بينهما. اهـ.
فهذا هو الأصل الذي ينبغي للسائلة أن تشغل به نفسها، وتديم فيه فكرها، كي تحسن اختيار الطريق، وتتأهب لمخالفة هواها فاستعيني بالله تعالى واصبري على طاعة الله، واصبري عن معصية الله، وإنما النصر صبر ساعة، وعليك بكثرة الدعاء والإلحاح على الله تعالى أن يتوب عليك توبة نصوحا، وراجع للفائدة الفتاوى التالية أرقامها: 17666، 10800، 33860.
والله أعلم.