السؤال
ما الفرق بين التوبة والاستغفار؟ وهل ينفع الاستغفار بدون توبة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكل من التوبة والاستغفار سبب مستقل للمغفرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: موانع لحوق الوعيد متعددة، منها: التوبة, ومنها: الاستغفار, ومنها: الحسنات الماحية للسيئات, ومنها: بلاء الدنيا ومصائبها, ومنها: شفاعة شفيع مطاع، ومنها: رحمة أرحم الراحمين. اهـ.
وقد عقد ابن الوزير اليماني في العواصم والقواصم فصلا عن معنى الإصرار، قال فيه: الإقامة ـ يعني على الذنب ـ مع العزم على التوبة وتسويفها، أو مع الهم بها، والندم والاستغفار، ففي كونه إصرارا نظر؛ لاختلاف أئمة اللغة في النقل؛ ولما في ظواهر القرآن والحديث في الاستغفار والاعتراف والندم. اهـ.
ثم ذكر تحت الاستغفار حديث: ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة. وذكر تحت الاعتراف قوله تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم {التوبة:102}، وحديث سيد الاستغفار، ثم قال: فقوله فيه: أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي أي: أقر وأعترف، فدل على أن للاعتراف أثرا في مغفرة الذنوب، وكذلك الاستغفار، وقد جمعا في هذا الاستغفار العظيم، ولو كان بمنزلة التوبة، لم يشترط في المغفرة لصاحبه أن يموت من يومه قبل أن يمسي, أو في ليله قبل أن يصبح، فإن التائب يغفر له ما لم يعد بالإجماع؛ ولأنه رتب المغفرة على القول واليقين به، لا سوى ... فهذا ما لم يتقدم ذكره من الاستدلال على الفرق بين التوبة الشرعية والاستغفار، والفرق بينهما أكثر من أن يحصى إذا تتبعت. اهـ.
ولإيضاح الفرق بينهما، نشير إلى أن التوبة النصوح: تصلح ماضي العبد وحاضره ومستقبله إذا تحققت شروطها، فشرط الندم يصلح الماضي، وشرط الإقلاع عن الذنب يصلح الحاضر، وشرط العزم الصادق على عدم العود يصلح المستقبل.
وأما الاستغفار فإنه يقصد به أصالة إصلاح الماضي، فينفع بمجرد اقترانه بالندم, والخوف من لحوق الوعيد، وهو في حقيقته نوع من الدعاء، فهو سؤال المغفرة، فيشترط له ما يشترط في الدعاء، كحضور القلب, وصدق الطلب, والافتقار إلى الله, قال أبو الحسن المباركفوري في مرعاة المفاتيح عن الفرق بينهما: التوبة هي: الندم على ما فرط في الماضي، والعزم على الامتناع منه في المستقبل، والاستغفار: طلب الغفران لما صدر منه، ولا يجب فيه العزم في المستقبل. اهـ.
وليس معنى هذا أن استغفار المستهتر بالذنوب المصر عليها يزيل ذنبه، بل لا يكاد مثل هذا أن ينفعه استغفاره؛ لأن قلبه غافل عن الله، لاه بمعاصيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه. رواه الترمذي وأحمد، وحسنه الألباني.
قال المناوي في التيسير: أي: لا يعبأ بسؤال سائل مشغوف القلب بما أهمه من دنياه، قال الإمام الرازي: أجمعوا على أن الدعاء مع غفلة القلب لا أثر له. اهـ.
وقال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية: الفرق بين الاستغفار والتوبة: أن الاستغفار طلب المغفرة بالدعاء, والتوبة, أو غيرهما من الطاعة، والتوبة: الندم على الخطيئة, مع العزم على ترك المعاودة, فلا يجوز الاستغفار مع الإصرار؛ لأنه مسلبة لله ما ليس من حكمه ومشيئته ما لا تفعله مما قد نصب الدليل فيه، وهو تحكم عليه كما يتحكم المتأمر المتعظم على غيره بأن يأمره بفعل ما أخبره أنه لا يفعله. اهـ.
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن الفرق بين التوبة والاستغفار، وهل للاستغفار أثر في تخفيف الذنب مع الإصرار؟ فأجاب: الاستغفار يكون عن ذنب مضى، والتوبة لما يستقبل، فالاستغفار مقدمة للتوبة، كالتخلية قبل التحلية؛ ولذلك قرن الله بينهما، كما في قوله: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) ولا ينفع الاستغفار مع الإصرار؛ لأنه إلى الاستهزاء أقرب منه إلى الحسنات. اهـ.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين: الاستغفار نوعان: مفرد, ومقرون بالتوبة، فالمفرد: كقول نوح - عليه السلام - لقومه: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا} [نوح: 10] وكقول صالح لقومه: {لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون} [النمل: 46] .. والمقرون كقوله تعالى: {استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} [هود: 3] فالاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها، مع تضمنه طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب, وإزالة أثره, ووقاية شره، فلا بد في لفظ المغفر من الوقاية، وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب في قوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33] فإن الله لا يعذب مستغفرا، وأما من أصر على الذنب، وطلب من الله مغفرته، فهذا ليس باستغفار مطلق؛ ولهذا لا يمنع العذاب، فالاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق, وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع, وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله. اهـ. وراجع الفتوى رقم: 74412.
والله أعلم.