الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن النظر المحرم، في الأصل من صغائر الذنوب، كما جاء عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة - رضي الله عنهم- في تفسير اللمم في قوله تعالى: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم {النجم:32}. وقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه
ويدل على هذا أيضا ما جاء من أن خطيئة النظر يكفرها الوضوء، وهذا من شأن الصغائر . كما في الحديث: إذا توضأ العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء. أخرجه مسلم.
وأما الفتوى رقم: 27224 فليس فيها أن النظر بشهوة من الكبائر, وإنما فيها أن مشاهدة الأفلام من الكبائر؛ لأن النظر إذ اجتمع فيه شهوة مع خوف الفتنة، صار من الكبائر، ونقلنا في ذلك قول الهيتمي في الزواجر: نظر الأجنبية بشهوة مع خوف فتنة، ولمسها كذلك، وكذا الخلوة بها بأن لم يكن معهما محرم لأحدهما يحتشمه، ولو امرأة كذلك، ولا زوج لتلك الأجنبية.
ثم قال: عد هذه الثلاثة من الكبائر هو ما جرى عليه غير واحد، لكن الذي جرى عليه الشيخان وغيرهما أن مقدمات الزنا ليست كبائر، ويمكن الجمع بحمل هذا على ما إذا انتفت الشهوة، وخوف الفتنة، والأول على ما إذا وجدتا، فمن ثم قيدت بهما الأول حتى يكون له نوع اتجاه، وأما إطلاق الكبيرة ولو مع انتفاء ذينك فبعيد جدا. اهـ بتصرف.
وعامة المفسرين، وشراح الحديث على عد النظر من الصغائر، ولم ينصوا على استثاء هذه الحال.
وأما انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، فهو ثابت بالقرآن، والسنة، وإجماع السلف.
قال ابن القيم في المدارج: والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن، والسنة، وإجماع السلف، وبالاعتبار، قال الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] وقال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} [النجم: 32]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر . وأما ما يحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني أنه قال: الذنوب كلها كبائر، وليس فيها صغائر، فليس مراده أنها مستوية في الإثم، بحيث يكون إثم النظر المحرم كإثم الوطء في الحرام، وإنما المراد أنها بالنسبة إلى عظمة من عصي بها كلها كبائر، ومع هذا فبعضها أكبر من بعض، ومع هذا فالأمر في ذلك لفظي لا يرجع إلى معنى. اهـ.
قال ابن تيمية: ومن قال إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، وإن ما عصي به فهو كبيرة، فإنه يوجب أن لا تكون الذنوب في نفسها تنقسم إلى كبائر وصغائر، وهذا خلاف القرآن؛ فإن الله قال: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} [النجم: 32] وقال: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون} [الشورى: 37] وقال: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] وقال: {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} [الكهف: 49] وقال: {وكل صغير وكبير مستطر} [القمر: 53] .اهـ. من مجموع الفتاوى.
قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة -: يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر! وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر. اهـ.
وجاء في التحبير للمرداوي: قال البرماوي: القول بانقسام الذنب إلى صغائر وكبائر، عليه الجمهور. وقال الأستاذ، والقاضي أبو بكر ابن الباقلاني، وابن القشيري: إن جميع الذنوب كبائر. ونقله ابن فورك عن الأشعرية، واختاره نظرا إلى من عصى الله عز وجل. قال القرافي: كأنهم كرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة إجلالا له، مع موافقتهم في الجرح أنه ليس بمطلق المعصية؛ بل منه ما يقدح، ومنه ما لا يقدح، وإنما الخلاف في التسمية. انتهى. قلت: وما أحسن ما قال الكوراني في " شرح جمع الجوامع ": إن أرادوا إسقاط العدالة فقد خالفوا الإجماع، وإن أرادوا قبح المعصية نظرا إلى كبريائه تعالى، وأن مخالفته لا تعد أمرا صغيرا فنعم القول. اهـ.
والقول بعدم انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر نقلناه في الفتوى رقم: 27224 ، ولم نقصد تقريره، بدليل ترجيحنا فيها أن مشاهدة الأفلام من الكبائر.
وأما قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما {النساء:31}، فالمراد بالسيئات الصغائر، وأنها تكفر باجتناب الكبائر.
قال ابن كثير في تفسيره: أي: إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها، كفرنا عنكم صغائر الذنوب، وأدخلناكم الجنة .اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره: اللمسة، والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق، وقوله الحق، لا أنه يجب عليه ذلك. فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر. اهـ. بتصرف.
وقال ابن القيم: فتكفير الصغائر يقع بشيئين: أحدهما: الحسنات الماحية، والثاني: اجتناب الكبائر. وقد نص عليها سبحانه وتعالى في كتابه فقال تعالى:{وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] ، وقال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء:31] .اهـ.
وقال: والدليل على أن السيئات هي الصغائر، والتكفير لها قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} [النساء: 31]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر .اهـ. من طريق الهجرتين .
وأما قوله سبحانه: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء {النساء:48}. فهو في الذنوب التي دون الشرك التي لم يتب منها، فصاحبها تحت مشيئة الله، إن شاء غفرها له، وإن شاء أخذه بها.
قال ابن تيمية: وقد قال سبحانه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وهذه الآية في حق من لم يتب، ولهذا خصص الشرك وقيد ما سواه بالمشيئة، فأخبر أنه لا يغفر الشرك لمن لم يتب منه، وما دونه يغفره لمن يشاء. وأما قوله: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا}. فتلك في حق التائبين؛ ولهذا عم وأطلق. اهـ. من مجموع الفتاوى.
فليس بين الآيتين تعارض، فالأولى فيها تكفير الصغائر لمن كان مجتنبا للكبائر، وفي الآية الآخرى أن الذنوب - دون الشرك - التي لم يتب منها صاحبها ومنها الكبائر تحت مشيئة الله.
والله أعلم.