السؤال
سؤالي معقد قليلا، وأحتاج إلى شخص حكيم كي يساعدني.
بفضل الله ورحمته، جعلني ربي من قوافل العائدين إليه بعد أن غرقت في مستنقعات الرذيلة، والفساد، والمعاصي. ومضى على توبتي تقريبا سنة وثمانية أشهر بفضل الله، أسأل الله الثبات والهداية لي ولجميع الملتزمين.
وقصتي هي أنني منذ أن بدأت مرحلة مراهقتي "14 عاما تقريبا" تعرفت على صديق لي، وبدأنا بتجربة الأشياء التي كانت محظورة علينا وكان أولها السهر، والأصدقاء وما يلحق بها، إلى أن وصلنا إلى قعر مستنقع الرذيلة والانحلال.
وأرسل الله لنا تنبيهات ولكننا لم نكن نعقل، ولم نتعظ، واستمررنا في المعاصي مع أننا نشأنا في بيئة ملتزمة، وفي دورات تحفيظ القرآن و في عائلات محافظة. وبعد أن وصلنا إلى عمر ال 19 من الله علي بالهداية، وتبت إلى الله توبة نصوحا، صادقة، أسأل الله برحمته أن يقبل توبتي. وفي فترة السوء كنا نتفاخر بالمعاصي، وكنا ندخل عند بائع المواد الغذائية " بقالة - ميني ماركت " ونشتري بقليل من النقود بعض الأشياء، ونأخذ الكثير بغير ثمنه دون أن يشعر صاحب الدكان "المحل " وكانت تلك عادة ولم تكن لحاجة، أو نقص نقود، ولكن مجرد إظهار للذات، وأحيانا سائق سيارة الأجرة بعد أن يوصلنا إلى المكان الذي نريد ننزل كلنا ونهرب دون دفع الأجرة، وأغلب المحلات التي ندخلها نسرق منها أي شيء، وكل محل عملت عنده كذلك، حتى عند ما عملت عند والدي سرقت منه حتى إن هنالك أشخاصا ليس عندهم محلات وإنما يبيعون على عربة، لم يسلموا من شري أيضا، ولكن بعد أن تبت الآن بفضل الله علمت أنه يجب أن أرد الحقوق لأصحابها. وهنا تبدأ الأسئلة:
1- هنالك الكثير الكثير من الحقوق ولا أستطيع تذكرها كلها، ولا أستطيع تقدير كميتها أو سعرها، وهنالك بعض الأشخاص تركوا مكان عملهم ولم يبقوا فيه. فكيف العمل على رد حقوقهم ؟
2-حاليا ليس عندي دخل جيد، وأعيش في منزل والدي مع إخوتي، وانتهيت من دراسة الشهادة الثانوية توا. فكيف أجمع نقودا تكفي لكل هذه الحقوق التي للناس علي؟
3_ هل فعلا لا تقبل صدقاتي، ولا نفقاتي حتى أبرئ ذمتي من حقوق الناس؟ وأنت تعلم حال المشردين عندنا في دمشق، يوجد الكثير الكثير من المحتاجين. فهل فعلا لا يجب علي أن أساعدهم حتى أؤدي حقوق الناس لأصحابها؟
4- في ذلك الوقت كانت عملتنا لها قيمة أكثر من الآن، فلو افترضنا أن سعر ربطة الخبر في وقتها كان 25 فالآن أصبح سعرها 50 وكذلك كل الأشياء اختلف سعرها حتى النقود ذاتها نقصت قيمها المادية عن ما كانت عليه. فكيف أدفع لأصحاب النقود نقودهم سواء كانت نقودا أو أغراضا؟
5- أرجوك أرشدني إلى بعض الطرق التي اعيد بها النقود لأصحابها إن علمتهم دون احراج, طريقة عملية وليست نظرية فقط!
وجزاكم الله عنا كل خير، وأعتذر على طول الرسالة.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فتجب التوبة النصوح من السرقة، ولا تتم التوبة إلا برد المال لأهله؛ لما في حديث المسند: على اليد ما أخذت حتى تؤديه.
وبناء عليه، فلا بد للسارق أن يبذل قدر طاقته ووسعه في رد المسروقات إلى أصحابها، ويمكنه استعمال المعاريض والتورية في طريقة إيصالها، ولا يجب عليه الإقرار بالسرقة بل يمكن أن يوهمهم أنها ديون، أو يقدمها على أنها هدايا. فإن عجز عن معرفة أصحابها بعد محاولات متكررة، وبحث جاد، فليتصدق بتلك المسروقات -إن كانت موجودة - وإن كانت غير موجودة فليتصدق بقيمتها في الوقت الحالي.
وأما النقود فتلزمه كما هي دون اعتبار لتغير قيمتها، وتكون الصدقة على أنه متى ما وجد أصحابها خيرهم بين أن يرد عليهم مثل ما أخذ منهم أو قيمته، وبين أن يقبلوها صدقة عنهم، ويمكن في هذه الحال أن يتصدق بها على الأهالي المشردين. وإذا كان يجهل مقدار الحق، فليجتهد برد ما يغلب على ظنه براءة ذمته به.
فقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : إذا كان بيد الإنسان غصوب، أو عواري، أو ودائع، أو رهون قد يئس من معرفة أصحابها، فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها إلى قاسم عادل يصرفها في مصالح المسلمين المصالح الشرعية .. فإن حبس المال دائما لمن لا يرجى لا فائدة فيه، بل هو تعرض لهلاك المال واستيلاء الظلمة عليه، وكان عبد الله بن مسعود قد اشترى جارية فدخل بيته ليأتي بالثمن، فخرج فلم يجد البائع، فجعل يطوف على المساكين، ويتصدق عليهم بالثمن، ويقول: اللهم عن رب الجارية. فإن قبل فذاك، وإن لم يقبل فهو لي، وعلي له مثله يوم القيامة, وكذلك أفتى بعض التابعين من غل من الغنيمة وتاب بعد تفرقهم أن يتصدق بذلك عنهم، ورضي بهذه الفتيا الصحابة، والتابعون الذين بلغتهم كمعاوية وغيره من أهل الشام. انتهـى.
واعلم أن تصدق من عليه دين حال، لا يجوز قبل قضاء ما يجب عليه؛ إذ لا يتنفل من عليه واجب.
فقد قال النووي رحمه الله في المجموع: إذا أراد صدقة التطوع وعليه دين، فقد أطلق المصنف -الشيرازي- وشيخه أبو الطيب، وابن الصباغ، والبغوي وآخرون، أنه لا تجوز صدقة التطوع لمن هو محتاج إلى ما يتصدق به لقضاء دينه. وقال المتولي وآخرون: يكره، وقال الماوردي والغزالي وآخرون: لا يستحب. وقال الرافعي: لا يستحب، وربما قيل: يكره. هذا كلامه، والمختار أنه إن غلب على ظنه حصول الوفاء من جهة أخرى فلا بأس بالصدقة وقد تستحب، وإلا فلا تحل، وعلى هذا التفصيل يحمل كلام الأصحاب المطلق. انتهى.
ثم إن عليه أن يكثر من أعمال البر، فإن أصحاب الحقوق قد يطالبونه بها يوم القيامة، والله حكم عدل، فقد يوفيهم إياها من حسناته، وإلا فإنه سيطرح عليه من سيئاتهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأحد من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لايكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. رواه البخاري وغيره.
ومن كان فقيرا فإن الحقوق تبقى دينا عليه حتى يستطيع الوفاء؛ وراجع للأهمية الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 21859، 6022، 6420
والله أعلم.