السؤال
هل يعتبر وجود مصلحة شخصية نفسية أو مادية في العمل مما يقدح في الإخلاص؟ مثل أن يعمل الرجل عملا أقل أجرا، لأنه أسهل وأحب إلى نفسه، ومثل أن يربي ولده على حفظ شيء من القرآن مقابل حصوله على بعض المطالب الدنيوية، فهل هذه تربية منافية للإخلاص بابتغاء الدنيا بأعمال الآخرة أم لا؟.
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي ينافي الإخلاص هو إرادة غير الله تعالى بالعمل، طلبا لنفع أو مدح ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة، وأما العمل ابتغاء وجه الله تعالى وثوابه: فلا يناقضه أن يجمع إليه قصد حصول شيء مشروع، قال الدكتور عمر الأشقر في رسالته العلمية: مقاصد المكلفين ـ المقاصد الخيرة هي التي يقصد بها صاحبها وجه الله تعالى، أو يقصد المصالح التي أجاز الشارع للمكلف قصدها. اهـ.
وقال في بيان الضابط الذي تعرف به المصالح التي يجوز للمكلف قصدها من وراء الأمور التي يتعبد بها، والمصالح التي لا يجوز له قصدها: الضابط الذي ارتضاه الشاطبي هو أن ينظر العبد في مقاصد الشارع ويجعل المكلف قصده محكوما بمقاصد الشارع، فالمقاصد الموافقة لقصد الشارع مقاصد صحيحة، والمقاصد المخالفة لمقاصد الشارع من التكاليف غير صحيحة... ونرى أن هذا الضابط مع جودته يحسن أن يعدل بحيث يصبح على النحو التالي: يقصد المكلف من عمله بالتكاليف الشرعية المقاصد التي وجه الله عباده إليها وارتضاها لهم، فالله سبحانه وتعالى يشرع لعباده الأعمال التي تضمنها دينه، وبين لهم المقاصد التي ينبغي أن يتوجهوا إليها، ولعلنا لسنا بمغالين إذا قلنا: إن عناية الإسلام بإيضاح المقاصد أعظم من عنايته بإيضاح الأعمال. اهـ.
ومن جملة هذه المقاصد المشروعة: التيسير على النفس بما يتفق مع الاعتدال المطلوب شرعا، فدين الله يسر، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل، وقال: اكلفوا من الأعمال ما تطيقون. رواه البخاري ومسلم.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا. رواه البخاري.
قال ابن حجر: والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وفي حديث ابن الأدرع عند أحمد: إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخير دينكم اليسرة ـ وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع. اهـ.
وقد سبق لنا بيان أن محبة الأثر المترتب على العمل لا تنافي الإخلاص، وأنه لا حرج في ملاحظة الوعود الدنيوية عند القيام بالأعمال الصالحة، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 55788، 70340، 129078.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتاوى التالية أرقامها: 112522، 69210، 106602، 127390.
وأما مسألة تحفيز الولد وتشجيعه على حفظ القرآن مقابل حصوله على بعض أغراضه الدنيوية، فهذا إن جمع إليه تعريفه بفضل القرآن وحفظه، وترغيبه في حصول ثواب الله تعالى، فلا نرى في ذلك حرجا، وخاصة إن كان دون سن البلوغ، وينبغي أن لا نغفل التذكير الدائم بثواب الله تعالى وتعليق قلبه بالجزاء في الآخرة بأسلوب يناسب سنه، فإن ذلك أدعى لحسن القصد وصحة النية مع تقدم السن، وقد نقل الذهبي في ترجمة هشام الدستوائي أنه قال: والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوما قط أطلب الحديث، أريد به وجه الله عز وجل ـ فعلق على ذلك بقوله: والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولا لا لله، وحصلوه ثم استفاقوا، وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد ـ وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، فهذا أيضا حسن، ثم نشروه بنية صالحة. اهـ.
وراجع الفتويين رقم: 77568، ورقم: 65786.
والله أعلم.