السؤال
كيف يحافظ المرء على الإيمان في قلبه، مع مباشرته للدنيا وشؤونها ومصالحها؟ فالمشكلة التي تواجهني هي أن الانشغال بأمر الدنيا ومصالحها يجعل الإيمان يقل في القلب، ويشوش عليه صفاءه، فهل يمكن مباشرة أمور الدنيا التي لا غنى للمرء عن القيام بها مع الحفاظ على الإيمان والإخلاص في قلبه؟ خاصة في أمر مثل طلب العلم المادي، حيث لا بد أن يكون من المسلمين من يبرع فيه، ولكن العكوف عليه، والانغماس فيه يؤدي إلى نقص الإيمان في قلب العبد، فكيف يمكن تفادي هذه المشكلة؟ وكيف يمكن مثلا الجمع بين حب الزوجة والأولاد، وبين حب الله تعالى والإخلاص له؟ وهل يمكن أن يتعلق قلب المرء بما سوى الله عز وجل ويكون إيمانه، وإخلاصه وتوحيده تاما؟
وهناك مشكلة أخرى، وهي أن المرء يقصر في واجب الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بسبب شدة المخالفات المنتشرة وكثرتها، فإن مسألة الدعوة والأمر والنهي تتطلب من العبد حضورا متواصلا لقلبه، وذهنه، وتفريغا للقلب لهذا الشأن؛ للعكوف عليه، والاهتمام به، ولأن المرء كثيرا ما يكون في سعي إلى قضاء مصلحة في مكان ما، ويرى كثيرا من المخالفات، حتى في الطريق، ولا يستطيع أن يقف مع كل مخالفة، فيضطر للإعراض عن كثير مما يراه؛ لقضاء مصالحه، وهذا يؤدي تدريجيا إلى اعتياد رؤية المنكر؛ مما يضعف الإيمان في قلب العبد، فكيف يحقق المرء هذا التوازن؟ وهل من نصيحة - جزاكم الله خيرا -؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد روى الحافظ ابن أبي الدنيا في كتاب العقل وفضله: عن وهب بن منبه، قال: مكتوب في حكمة آل داود - عليه السلام -: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات، وإجماما للقلوب، وحق على العاقل ألا يرى ظاعنا في غير ثلاث: زاد لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم.
وفي ضوء هذا الأثر يمكن أن يجمع المرء بين منافع المعاش، وسعادة المعاد، بصلاح الدنيا والآخرة معا، وهذا يكون بمراعاة أن يكون السعي في الدنيا وطلب المعاش، غير منفك عن الآخرة، حتى لا يقسو القلب، ويضعف الإيمان! وإنما ينبغي أن يقترن ذلك بالاحتساب، والنية الصالحة، وأن يختلط بذكر الله تعالى بالقلب، واللسان، مع قصر الأمل، وصدق التوكل على الله تعالى؛ فبهذا يؤجر العبد على سعيه، ولا تخبو جذوة الإيمان في قلبه، ويحسن بنا أن نذكر السائل بحديث كعب بن عجرة قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان. قال المنذري: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح ـ وصححه الألباني لغيره.
وراجع للأهمية في بقية جواب هذه الجزئية من السؤال الفتوى رقم: 122837.
وأما حب الزوجة والأولاد، وحب الله تعالى، والإخلاص له: فلا تعارض بينها، ولكن لكل نوع حقيقته ومرتبته، فحب الله تعالى هو قاعدة الإيمان، وأسبابه ودواعيه لا ينفك عنها مؤمن، مع بلوغها الغاية والكمال؛ لذاته سبحانه، ولإنعامه، فهذا الحب هو الأصل، وغيره له تبع، ولو تحقق أن إنسانا يحب أحدا أكثر من محبة الله تعالى، فهو مشرك لا يستحق اسم الإيمان، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 133731.
وراجع في بيان الضوابط الشرعية لمحبة الزوجة والأولاد ونحوهم الفتوى رقم: 115675.
ولمزيد الفائدة عن ذلك راجع الفتوى رقم: 137539.
وأما ما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فراجع فيه الفتوى رقم: 200473.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين رقم: 197249، ورقم: 45802.
وقد سبق لنا بيان أسباب ضعف الإيمان ومظاهره وعلاجه، ووسائل تقويته، وذلك في الفتويين رقم: 10800، ورقم: 76425.
وأخيرا: نذكر السائل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم. رواه الطبراني، والحاكم وقال: رواته مصريون ثقات ـ ولم يتعقبه الذهبي، وحسنه العراقي، والهيثمي، والألباني.
والله أعلم.