الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن للقصد والنية مراتب عدة، وليست هي على مرتبة واحدة، فإن كان تخيل الإنسان للذنب في نفسه مجرد خاطر عابر أو حديث للنفس، فهو غير مؤاخذ به، وأما إن كان عزما فهو مؤاخذ به، وقد حرر السبكي مراتب القصد والمحاسبة عليها، جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي: وقد تكلم السبكي في الحلبيات على ذلك كلاما مبسوطا أحسن فيه جدا, فقال: الذي يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب:
الأولى: الهاجس: وهو ما يلقى فيها، ثم جريانه فيها، وهو: الخاطر، ثم حديث النفس: وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا؟ ثم الهم: وهو ترجيح قصد الفعل، ثم العزم: وهو قوة ذلك القصد، والجزم به، فالهاجس: لا يؤاخذ به إجماعا؛ لأنه ليس من فعله، وإنما هو شيء ورد عليه، لا قدرة له ولا صنع، والخاطر الذي بعده: كان قادرا على دفعه بصرف الهاجس أول وروده، ولكنه هو وما بعده من حديث النفس مرفوعان بالحديث الصحيح، وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق الأولى. وهذه المراتب الثلاثة أيضا لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر. أما الأول فظاهر، وأما الثاني والثالث فلعدم القصد، وأما الهم فقد بين الحديث الصحيح أن الهم بالحسنة، يكتب حسنة، والهم بالسيئة لا يكتب سيئة، وينتظر، فإن تركها لله كتبت حسنة، وإن فعلها كتبت سيئة واحدة، والأصح في معناه: أنه يكتب عليه الفعل وحده; وهو معنى قوله: "واحدة"، وأن الهم مرفوع. ومن هذا يعلم أن قوله في حديث النفس ما لم يتكلم أو يعمل ليس له مفهوم، حتى يقال: إنها إذا تكلمت أو عملت يكتب عليه حديث النفس; لأنه إذا كان الهم لا يكتب، فحديث النفس أولى، هذا كلامه في الحلبيات. وقد خالفه في شرح المنهاج فقال: إنه ظهر له المؤاخذة من إطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -: أو تعمل ولم يقل أو تعمله، قال: فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية، وإن كان المشي في نفسه مباحا، لكن لانضمام قصد الحرام إليه، فكل واحد من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده، أما إذا اجتمعا فإن مع الهم عملا لما هو من أسباب المهموم به فاقتضى إطلاق أو تعمل المؤاخذة به . قال: فاشدد بهذه الفائدة يديك، واتخذها أصلا يعود نفعه عليك. وقال ولده في منع الموانع: هنا دقيقة نبهنا عليها في جمع الجوامع، وهي: أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهم ليس مطلقا، بل بشرط عدم التكلم والعمل، وحتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله، ولا يكون همه مغفورا، وحديث نفسه إلا إذا لم يتعقبه العمل، كما هو ظاهر الحديث، ثم حكى كلام أبيه الذي في شرح المنهاج، والذي في الحلبيات، ورجح المؤاخذة، ثم قال في الحلبيات: وأما العزم: فالمحققون على أنه يؤاخذ به، وخالف بعضهم، وقال: إنه من الهم المرفوع، وربما تمسك بقول أهل اللغة، هم بالشيء عزم عليه، والتمسك بهذا غير سديد؛ لأن اللغوي لا يتنزل إلى هذه الدقائق. واحتج الأولون بحديث إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا يا رسول الله, هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: كان حريصا على قتل صاحبه فعلل بالحرص، واحتجوا أيضا بالإجماع على المؤاخذة بأعمال القلوب كالحسد ونحوه، وبقوله تعالى {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25] على تفسير الإلحاد بالمعصية، ثم قال: إن التوبة واجبة على الفور، ومن ضرورتها العزم على عدم العود، فمتى عزم على العود قبل أن يتوب منها، فذلك مضاد للتوبة، فيؤاخذ به بلا إشكال، وهو الذي قاله ابن رزين، ثم قال في آخر جوابه: والعزم على الكبيرة، وإن كان سيئة، فهو دون الكبيرة المعزوم عليها. اهـ.
وأما هل إثم العازم على فعل المعصية كإثم الفاعل؟
فيقال: هناك فرق بين مطلق الإرادة، وبين الإرادة الجازمة التي لا يتخلف عنها الفعل إلا عند العجز؛ فمن عزم على فعل المعصية، وسعى لها بما يقدر عليه، ثم حيل بينه وبين الفعل, فهو بمنزلة الفاعل التام، تكتب له سيئته، وأما المريد للمعصية إرادة غير الجازمة، فهو دون الفاعل في الإثم.
قال ابن تيمية: الإرادة الجازمة: هي التي يجب وقوع الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة، فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة، وجب وجود الفعل لكمال وجود المقتضي السالم عن المعارض المقاوم، ومتى وجدت الإرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة، و"الإرادة الجازمة" إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام: له ثواب الفاعل التام، وعقاب الفاعل التام الذي فعل جميع الفعل المراد، حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته، مثل: المشتركين، والمتعاونين على أفعال البر، ومنها ما يتولد عن فعل الإنسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضلالة، والسان سنة حسنة وسنة سيئة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "من سن سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء". فالداعي إلى الهدى وإلى الضلالة هو طالب مريد كامل الطلب والإرادة لما دعا إليه، لكن قدرته بالدعاء والأمر, وقدرة الفاعل بالاتباع والقبول. وبهذا تبين: أن الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل وأمثالها إنما هي فيما دون الإرادة الجازمة التي لا بد أن يقترن بها الفعل، كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه -تبارك وتعالى- أنه قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات؛ ثم بين ذلك: فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات, ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبها له الله له حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها كتبها الله له عنده سيئة واحدة" وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة. فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل؛ ولهذا قال: "فعملها" "فلم يعملها" ومن أمكنه الفعل فلم يفعل لم تكن إرادته جازمة؛ فإن الإرادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل وموجب له؛ فإذا هم بحسنة فلم يعملها كان قد أتى بحسنة وهي الهم بالحسنة، فتكتب له حسنة كاملة فإن ذلك طاعة وخير، فإن عملها كتبها الله له عشر حسنات لما مضى رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، كما قال تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة}، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح لمن جاء بناقة "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة إلى أضعاف كثيرة". وقد روي عن أبي هريرة مرفوعا "أنه يعطى به ألف ألف حسنة". وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر عليها فإن الله لا يكتبها عليه، كما أخبر به في الحديث الصحيح. وسواء سمي همه إرادة أو عزما أو لم يسم، متى كان قادرا على الفعل, وهم به, وعزم عليه, ولم يفعله مع القدرة فليست إرادته جازمة, وهذا موافق لقوله في الحديث الصحيح -حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم--:"إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به" فإن ما هم به العبد من الأمور التي يقدر عليها من الكلام والعمل، ولم يتكلم بها, ولم يعملها لم تكن إرادته لها جازمة، فتلك مما لم يكتبها الله عليه, كما شهد به قوله: "من هم بسيئة فلم يعملها" ومن حكى الإجماع كابن عبد البر, وغيره في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا الاعتبار. وهذا الهام بالسيئة: فإما أن يتركها لخشية الله وخوفه أو يتركها لغير ذلك؛ فإن تركها لخشية الله كتبها الله له عنده حسنة كاملة, كما قد صرح به في الحديث, وكما قد جاء في الحديث الآخر: "اكتبوها له حسنة فإنما تركها من أجلي، أو قال: من جرائي" وأما إن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة، كما جاء في الحديث الآخر: "فإن لم يعملها لم تكتب عليه". وبهذا تتفق معاني الأحاديث. اهـ. باختصار.
وقال: وكذلك الحريص على السيئات الجازم بإرادة فعلها إذا لم يمنعه إلا مجرد العجز، فهذا يعاقب على ذلك عقوبة الفاعل لما في الحديث الصحيح: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه" وفي لفظ: "إنه أراد قتل صاحبه". فهذه "الإرادة" هي الحرص، وهي الإرادة الجازمة، وقد وجد معها المقدور، وهو: القتال، لكن عجز عن القتل، وليس هذا من الهم الذي لا يكتب. اهـ.
ومن ثم؛ كان على المسلم العاقل أن يدافع خواطر السوء بكل سبيل، لأن أول المعصية فكرة يزينها الشيطان، وتتحدث بها النفس، ثم لا تزال بالإنسان حتى يعزم عليها، ثم يفعلها.
وأما المقارنة بين مشاهدة الأفلام الإباحية وفعل الفاحشة: فكلاهما محرم، لكن الأصل أن إثم فاعل الفاحشة أعظم من إثم المشاهد، لعظم مفسدة فعل الفاحشة مقارنة بمشاهدتها. وينظر في خطورة مشاهدة الأفلام الإباحية الفتوى رقم: 27224، وما أحيل عليه فيها.
أما مشاهدة الأفلام بداعي التسلية: فإن اشتملت هذه الأفلام على ما يحرم رؤيته كالصور المحرمة أو سماعه كالمعازف، فيحرم مشاهدتها، وأما إن خلت الأفلام مما يحرم رؤيته وسماعه، فيجوز مشاهدتها، شريطة ألا يترتب على ذلك تفويت شيء من الواجبات، كالصلوات المكتوبات في جماعة، وبر الوالدين.
وراجع حول التوبة والتخلص من مشاهدة الأفلام الإباحية الفتوى رقم: 137744. وفي دفع خواطر السوء تنظر الفتوى رقم: 132647، والفتوى رقم: 137646.
والله أعلم.