الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فان معنى: "دسيسة سوء": ما كان يدسه الشخص ويخفيه من سيئ الأعمال.
والمراد بالخصلة الخفية الحميدة: ما كان يخفيه من الحسنات.
وقد وضح هذا ابن رجب ـ رحمه الله ـ حيث قال في جامع العلوم والحكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة ـ زاد البخاري في رواية له: إنما الأعمال بالخواتيم ـ وقوله: فيما يبدو للناس ـ إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ، ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة، قال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلا عند الموت يلقن لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب، فإنها هي التي أوقعته ـ وفي الجملة: فالخواتيم ميراث السوابق، وكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا. انتهى.
وقال ابن عثيمين -رحمه الله-: فهو فيما يبدو للناس يعمل بعمل أهل الجنة، أما فيما يخفى على الناس ففي قلبه سريرة خبيثة أودت به وأهلكته؛ ولهذا فأنا أحث دائما أن يحرر الإنسان قلبه، ويراقب قلبه، فأعمال الجوارح بمنزلة الماء، تسقى به الشجرة، لكن الأصل هو القلب، وكثير من الناس يحرص ألا يخطئ في العمل الظاهر، وقلبه مليء بالحقد على المسلمين، وعلمائهم، وعلى أهل الخير، وهذا يختم له بسوء الخاتمة - والعياذ بالله -، لأن القلب إذا كان فيه سريرة خبيثة، فإنها تهوي بصاحبه في مكان سحيق. اهـ.
وأما ذنوب الخلوات فهي خطيرة، وقد تفضي بصاحبها لسوء الخاتمة، ويدل لخطرها قول النبي صلى الله عليه وسلم: لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا" قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها. رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
ولما حضرت الوفاة سفيان الثوري - رحمه الله - جعل يبكي؛ فقال له رجل: "يا أبا عبدالله، أمن كثرة الذنوب؟"؛ فقال: "لا، ولكن أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت".
قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا من أعظم الفقه؛ أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى. اهـ.
وقال الحافظ عبد الحق الإشبيلي: ولسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - أسباب، ولها طرق وأبواب، وأعظمها: الانكباب على الدنيا وطلبها، والحرص عليها، والإعراض عن الآخرة، والإقدام والجرأة على معاصي الله، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة، ونوع من المعصية، وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبه، وسبى عقله، فربما جاءه الموت على ذلك، وسوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم، ولله الحمد، وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة. اهـ.
وقال ابن رجب: وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد، لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ، ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة. اهـ.
وقال ابن القيم: وإذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين: وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة؛ عقوبة لهم على أعمالهم السيئة. اهـ.
وأما عن قولك: "ليس هناك شخص لا يذنب، وأيضا المجاهرة بالذنب لا تجوز، فكيف يمكن أن يموت الشخص على حسن الخاتمة، وله ذنوب لا يعلمها الناس، ومن الممكن أن تكون هذه الذنوب سببا في سوء الخاتمة؟".
فالجواب عنه: أن العبد المؤمن ليس معصوما، فقد تقع منه الهفوات، وهو مطالب بالستر، وترك المجاهرة، ولكن المؤمن يتوب ويستغفر، ويكثر الطاعات، فيمحو الله بذلك أثر الذنب.
وأما المصر على المعصية، المستديم عليها، فهو الذي يخاف عليه من سوء الخاتمة، وقد وصف الله المتقين فقال: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون {آل عمران: 135}، وقال أيضا: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون {الأعراف: 201} .
قال السعدي: لما كان العبد لا بد أن يغفل، وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم، أو ترك واجب، تذكر من أي باب أتي، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب الله عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر الله تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه. اهـ.
والله أعلم.