الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن مشكلتك الكبرى هي: ضعف الرضى بما قسمه الله لك.
وعلاج ذلك: أن تعلم وتوقن أن اختيار الله لك، خير من اختيارك لنفسك، وأنه سبحانه أعلم بمصالحك منك، وأن من ضعف اليقين أن تعتب على القدر، وتقترح عليه خلاف ما جرى به، فأنت لا تدري لو أتاك ما عند غيرك، ماذا كان يكون حالك، والله وحده هو العالم بالمصالح، القادر على سوقها لمن شاء، والمؤمن يرضى بالله تعالى ربا، ومعنى رضاه به ربا: أنه يرضى بجميع تصرفاته، وتدبيره له، عالما أن الخير كله بيديه، والشر ليس إليه.
وهاك طرفا من كلام السلف -رحمهم الله- في الرضى، منقولا عن شرح المنازل لابن القيم: وقال ذو النون: ثلاثة من أعلام الرضى: ترك الاختيار قبل القضاء، وفقدان المرارة بعد القضاء، وهيجان الحب في حشو البلاء. وقيل للحسين بن علي -رضي الله عنهما-: إن أبا ذر -رضي الله عنه- يقول: الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا، فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له، لم يتمن غير ما اختار الله له.
وقال الفضيل بن عياض لبشر الحافي: الرضى أفضل من الزهد في الدنيا. لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته.
وسئل أبو عثمان عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: أسألك الرضى بعد القضاء، فقال: لأن الرضى قبل القضا، عزم على الرضى. والرضى بعد القضا، هو الرضى. وقيل: الرضى ارتفاع الجزع في أي حكم كان. وقيل: رفع الاختيار. وقيل: استقبال الأحكام بالفرح. وقيل: سكون القلب تحت مجاري الأحكام. وقيل: نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد. وهو ترك السخط.
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى -رضي الله عنهما-: أما بعد، فإن الخير كله في الرضى، فإن استطعت أن ترضى، وإلا فاصبر.
وقال أبو علي الدقاق: الإنسان خزف. وليس للخزف من الخطر ما يعارض فيه حكم الحق تعالى. وقال أبو عثمان الحيري: منذ أربعين سنة، ما أقامني الله في حال فكرهته، وما نقلني إلى غيره فسخطته. انتهى.
ونحن نسوق لك جملة من الأسباب المعينة على الرضى، ملخصة من كلام العلامة ابن القيم -رحمه الله- في شرح منازل السائرين، قال -رحمه الله-: من رضي عن ربه، رضي الله عنه. بل رضى العبد عن الله، من نتائج رضى الله عنه. فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده: رضى قبله، أوجب له أن يرضى عنه، ورضى بعده،. هو ثمرة رضاه عنه. ولذلك كان الرضى باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين.
ومن أعظم أسباب حصول الرضى: أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام الرضى، ولا بد.
وقال: ويسهل ذلك على العبد: علمه بضعفه، وعجزه، ورحمته به، وشفقته عليه، وبره به. فإذا شهد هذا وهذا، ولم يطرح نفسه بين يديه، ويرضى به، وعنه، وتنجذب دواعي حبه، ورضاه كلها إليه؛ فنفسه نفس مطرودة عن الله، بعيدة عنه، ليست مؤهلة لقربه، وموالاته، أو نفس ممتحنة مبتلاة بأصناف البلايا، والمحن.
وقال أيضا: وإنما تستوي النعمة والبلية عنده في الرضى بهما؛ لوجوه:
أحدها: أنه مفوض، والمفوض راض بكل ما اختاره له، من فوض إليه، ولا سيما إذا علم كمال حكمته، ورحمته، ولطفه، وحسن اختياره له.
الثاني: أنه جازم بأنه لا تبديل لكلمات الله، ولا راد لحكمه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو يعلم أن كلا من البلية، والنعمة بقضاء سابق، وقدر حتم.
الثالث: أنه عبد محض، والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق، البار الناصح المحسن، بل يتلقاها كلها بالرضى به، وعنه.
الرابع: أنه محب، والمحب الصادق من رضي بما يعامله به حبيبه.
الخامس: أنه جاهل بعواقب الأمور، وسيده أعلم بمصلحته، وبما ينفعه.
السادس: أنه لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه، ولو عرف أسبابها، فهو جاهل ظالم، وربه تعالى يريد مصلحته، ويسوق إليه أسبابها.
ومن أعظم أسبابها: ما يكرهه العبد، فإن مصلحته فيما يكره أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب، قال الله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة:216]، وقال تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء:19].
السابع: أنه مسلم، والمسلم من قد سلم نفسه لله، ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه، ولم يسخط ذلك.
الثامن: أنه عارف بربه، حسن الظن به، لا يتهمه فيما يجريه عليه من أقضيته، وأقداره، فحسن ظنه به يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيده سبحانه.
وقال: ونكتة المسألة: إيمانه بأن قضاء الرب تعالى خير له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن. انتهى.
وهو فصل طويل نافع، نوصي بمراجعته بتمامه.
وإذا علمت ما مر؛ فإن كل ما تحزن عليه، وتتألم لفواته، إنما هو من الدنيا الفانية، التي لا تزن عند خالقها جناح بعوضة، ولو نظرت إليها ووزنتها بميزان الرب تعالى، لم تأس على ما فاتك منها؛ ولذا ندبنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النظر إلى من دوننا في الدنيا؛ لئلا نزدري نعمة الله علينا. وأما في أمور الآخرة، فهي التي يتنافس فيها المتنافسون، ويشمر لها العاملون.
فعليك أن تجعل همتك مصروفة إلى مرضات الله تعالى، وإلى ما ذخره لعباده الصالحين في الآخرة، فتطمح إلى فضله، ومثوبته، وتنافس في ذلك أهل الخير؛ وبذلك يهون عليك أمر الدنيا بما فيها، وتعلم أن ما فاتك ليس بشيء يؤسف عليه أصلا.
وقد كان قبلك الأنبياء، والصالحون، والخيرة من عباد الله تعالى، الذين هم أحب إلى الله منك، ومع ذا؛ فقد زويت عنهم الدنيا، ولم يوسع عليهم فيها، فما لك لا ترضى، وقد أوتيت منها ما لم يؤته هؤلاء المقربون؟!
ومع هذا كله؛ فعليك بالاستعانة بالله، ودعائه أن يشرح صدرك، وينور قلبك، ويرزقك الرضى بجميع قضائه، وقدره.
والله أعلم.