السؤال
في مسائل الحيل والمعاقبة بنقيض المقصود، لو أن شخصا مشى على قول ابن حجر الهيتمي في قوله أنه من شروط التوبة إذا تذكر ذنوبه أن يقوم بتعيينها بآحادها، وتفاصيلها، وعدم صحة التوبة العامة مع تذكر الذنوب، فلو أن شخصا تناسى ذنوبه عمدا كي يسقط شرط تذكر الذنب، ثم تاب توبة عامة كي يريح نفسه، فهل تقبل توبته؟
وإذا عوقب بنقيض مقصوده، فما هي هذه العقوبة؟ هل يستحضر جميع الذنوب التي وردت في نصوص الشرع ذنبا ذنبا، ويتوب منها؟
هل تدخل العقوبة بنقيض القصد في هذا الباب؟ ثم لو كان الشخص يتبع قولا ينص على تحريم أمر ما ، ثم تحايل على هذا الأمر بطريقة محرمة، ثم بعد هذا تاب، وأخذ بقول آخر ينص على عدم تحريم ذلك الأمر فرارا من العقوبة بنقيض المقصود. هل تسقط عنه العقوبة حينئذ؟
أرجو الإجابة مع ذكر الأدلة، وأقوال أهل العلم. وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأصل السؤال مبناه على إمكانية حصول النسيان عمدا! وهذا ليس بصحيح، فالنسيان لا يحصل باختيار العبد حتى يمكن تعمده، ولكن الممكن هو التغافل عن الذنب، وتشتيت الذهن عنه بالانشغال بغيره. ولكن هذا لا يعني النسيان؛ فإن المرء إذا سئل عما تشاغل عنه، أو حاول استحضاره بعد ذلك: تذكره.
وعلى أية حال، فالمسألة التي ينبغي تحريرها هي: هل تصح التوبة من جملة الذنوب من غير ذكر تفاصيلها؟ وهذا يأتي في مبحث شرط الندم لصحة التوبة، فمن قال إنها غير صحيحة علل ذلك بأن الندم لا يتحقق إلا إذا تذكر ما فعله حتى يتصور ندمه عليه، كما نقل ابن حجر في (كتاب الزواجر) عن الزركشي.
وهذا ظاهر في حال تذكر تفاصيل الذنوب، وأما عند نسيان أعيانها فالتكليف به لا يخلو من إشكال، وهو من الحرج المرفوع عن هذه الشريعة.
قال الزركشي في المنثور في القواعد الفقهية: إذا صدر من المكلف ذنب ونسيه فأراد التوبة عنه. قال ابن القشيري في المرشد: فإن عين ذنوبه في الجملة، وعزم أن لا يعود إلى ذنب لم تصح توبته مما نسيه، وما دام ناسيا لا يكون مطالبا بالتوبة، لكن يلقى الله تعالى وهو مطالب بتلك الزلة، وهذا كما لو كان عليه دين لآدمي، ونسي المداين، ولم يقدر على الأداء، فهو في الحال غير مطالب مع النسيان، ولكن يلقى الله تعالى وهو مطالب. قال: وهذا مأخذ ظاهر، لأن التوبة ندم، والندم إنما يتحقق مع الذكر لما فعله حتى يتصور الندم.
وقال القاضي أبو بكر: إن لم يتذكر التفصيل يقول: إن كان لي ذنب لم أعلمه، فإني تائب إلى الله تعالى منه ... وذكر المحاسبي أنه يعين كل ذنب على انفراده، ولا يخفى إشكاله. اهـ.
وذكر الزركشي ذلك أيضا في تشنيف المسامع بجمع الجوامع وزاد: وقال الشيخ عز الدين: يتذكر من الذنوب السالفة ما يمكن تذكره، وما تعذر لا يجب عليه ما لم يقدر عليه. اهـ. ونقله أيضا الولي العراقي في الغيث الهامع شرح جمع الجوامع.
وقال الشبراملسي في حاشيته على نهاية المحتاج تعليقا على المنقول عن القشيري "لكنه يلقى الله ..." قال: ينبغي أن يكون ذلك في ذنب يتوقف على رد المظالم. أما غيره فيكفي فيه عموم التوبة إذ التعيين غير محتاج إليه. اهـ.
وهذا هو الصواب -إن شاء الله- فبحسب من نسي عين ذنبه أن يتوب إلى الله تعالى توبة عامة من كل الذنوب، كما جاء في كتاب الزواجر نفسه: إن علم له ذنبا لكنه لم يتعين له في التذكر، فيمكن أن يندم على ما ارتكب من المخالفة على الجملة، ثم العزم على ألا يعود إلى المخالفة أصلا. اهـ.
وبهذا يتحقق شرط الندم مع نسيان عين الذنب، ووجه ذلك قد أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى فقال: الإنسان قد يستحضر ذنوبا فيتوب منها، وقد يتوب توبة مطلقة لا يستحضر معها ذنوبه، لكن إذا كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنبا؛ لأن التوبة العامة تتضمن عزما عاما بفعل المأمور، وترك المحظور، وكذلك تتضمن ندما عاما على كل محظور ... إذا تبين هذا، فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها؛ وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص، مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه؛ لقوة إرادته إياه، أو لاعتقاده أنه حسن ليس بقبيح، فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة، وأما ما كان لو حضر بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته. اهـ.
وقال الألوسي في روح المعاني: تصح التوبة عن المعاصي إجمالا من غير تعيين المتوب عنه، ولو لم يشق عليه تعيينه، وخالف بعض المالكية فقال: إنما تصح إجمالا مما علم إجمالا، وأما ما علم تفصيلا فلا بد من التوبة منه تفصيلا. اهـ.
ولا نرى حاجة بعد ذلك لتناول بقية عبارات السائل.
وأما سؤاله الآخر، فنترك جوابه، عملا بسياسة الموقع في الجواب على السؤال الأول فقط من الأسئلة المتعددة في الفتوى الواحدة.
والله أعلم.