الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن سبب هذا الإشكال هو الظن بأن مجرد الإتيان بالعمل بأي صورة كانت؛ يقتضي تكفير السيئات، وهذا غلط جسيم؛ فإن العمل الذي يترتب عليه أثره هو ما أقامه العبد على الوجه المطلوب؛ ظاهرا، وباطنا، وسلم من آفات الأعمال -من غفلة، أو رياء، أو عجب، أو غيرها-.
فكمال تكفير الأعمال الصالحة للسيئات هو بحسب كمال العمل.
وأما العمل الناقص؛ فتكفيره للسيئات ناقص أيضا، قال ابن القيم في الوابل الصيب من الكلم الطيب: وكذلك فوت الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى، الذي هو روحها ولبها، فصلاة بلا خشوع، ولا حضور؛ كبدن ميت، لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدا ميتا، أو جارية ميتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك، أو من أمير، أو غيره؟ فهكذا سواء؛ الصلاة الخالية عن الخشوع، والحضور، وجمع الهمة على الله تعالى فيها؛ بمنزلة هذا العبد -أو الأمة- الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك؛ ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه، وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها؛ فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، كما في السنن، ومسند الإمام أحمد، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن العبد ليصلي الصلاة، وما كتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، حتى بلغ عشرها.
وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة، وتوابعها. وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيرا كاملا، والناقص بحسبه.
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه؛ وبهذا يزول الاشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة، قالوا: فإذا كان دأبه دائما أنه يصوم يوم عرفة، فصامه، وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة!؟
وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات.
ويالله العجب، فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، موقوف على انتفاء الموانع كلها؛ فحينئذ يقع التكفير.
وأما عمل شملته الغفلة، أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يوف حقه، ولم يقدره حق قدره، فأي شيء يكفر هذا!؟ فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرا وباطنا، ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه ـ من عجب، أو رؤية نفسه فيه، أو يمن به، أو يطلب من العباد تعظيمه به، أو يستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه، أو يعادي من لا يعظمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟. اهـ.
وكذلك: فإن اجتماع أسباب تكفير السيئات أقوى وأتم في التكفير من انفراد بعضها، قال ابن القيم في الجواب الكافي: وكاغترار بعضهم على صوم يوم عاشوراء، أو يوم عرفة؛ حتى يقول بعضهم: يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها، ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر.
ولم يدر هذا المغتر أن صوم رمضان، والصلوات الخمس، أعظم وأجل من صيام يوم عرفة، ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر.
فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، لا يقويا على تكفير الصغائر، إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها؛ فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر، فكيف يكفر صوم يوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها، غير تائب منها؟ هذا محال.
على أنه لا يمتنع أن يكون صوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء؛ مكفرا لجميع ذنوب العام على عمومه، ويكون من نصوص الوعد التي لها شروط، وموانع، ويكون إصراره على الكبائر مانعا من التكفير، فإذا لم يصر على الكبائر لتساعد الصوم وعدم الإصرار، وتعاونهما على عموم التكفير، كما كان رمضان، والصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفير الصغائر، مع أنه سبحانه قد قال: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [سورة النساء:31]؛ فعلم أن جعل الشيء سببا للتكفير، لا يمنع أن يتساعد هو وسبب آخر على التكفير، ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهما، وكلما قويت أسباب التكفير؛ كان أقوى، وأتم، وأشمل. اهـ.
ومما ينبغي التنبه له: خطأ ما يظنه كثير من الناس أن الذنوب ليست إلا فعل المنهيات، مع أن التقصير في فعل الواجبات -الظاهرة، والباطنة-؛ من جملة الذنوب التي تستوجب التوبة، قال ابن تيمية -كما في جامع الرسائل-: فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله، وإلى فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، وليست التوبة من فعل السيئات فقط، كما يظن كثير من الجهال، لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح -كالفواحش، والمظالم-، بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها، فأكثر الخلق يتركون كثيرا مما أمرهم الله به من أقوال القلوب، وأعمالها، وأقوال البدن، وأعماله، وقد لا يعلمون أن ذلك مما أمروا به، أو يعلمون الحق ولا يتبعونه، فيكونون إما ضالين بعدم العلم النافع، وإما مغضوبا عليهم بمعاندة الحق بعد معرفته، وقد أمر الله عباده المؤمنين أن يدعوه في كل صلاة بقوله: "اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين". اهـ.
مع العلم بأن الأعمال الصالحة لا تكفر إلا الصغائر عند جماهير العلماء، وأما الكبائر؛ فلا بد لها من توبة، وانظر الفتوى: 408232.
والله أعلم.