السؤال
أرجوكم أرجوكم مشايخنا الأجلاء أن تسمعو قصتي إلى النهايه حتى تستطيعوا إفادتي بإذن الله، فمشكلتي هي أمي الله يسامحها لا تحب فعل الخير أبدا وللعلم هي تجاوزت "70 سنه"، ولكن ما شاء الله بكامل صحتها ربنا يحفظها، المشكلة في أني في خير كثير كثير وأحب الناس وأحب مساعدتهم بقدر ما أستطيع ولو بالابتسامة في وجوههم الصغير قبل الكبير وأحب أن أود جيراني وأهلي وصديقاتي، وللعلم أنا لست غنيه ولكني أقسم اللقمة بيني وبين من يحتاج لها، المهم أمي الله يحفظها لا يعجبها ذلك ودائما تغضب مني إذا سمعت أني أعطيت جيرانا شيئا من الأكل الذي أعمله أو مثلا إذا كان هناك نفاس أو عرس أو مرض أو موت فتقول لي: ما في داعي تروحي بحجة أنه خسارة وتعب عليك، فأحيانا أعمل بعض الأشياء دون علمها حتى لا تتحسس وأحيانا تعرف بها بطريقة غير مباشره فتغضب مني وتقول لي: أنت ما فيك خير أنت عاصية ما تسمعي كلامي، فكيف أعمل بالله عليكم أنا أحاول أن أرضيها فأنا فعلا أطيعها وأحبها وأحزن كثيرا على شأنها فديننا وربنا ورسولنا يقولون: الرحمة حلوة ويوصوننا بعمل الخير، وللعلم أمي ما شاء الله مصلية وصائمة وعابدة ربنا لكن ما أدري ليه فيها هذه النقطه السوداء في قلبها، فأنا ما أكذب عليك أتحمل وأتحمل ولكن تأتي لحظات أضيق من تصرفاتها وقد حاولت مرارا الحديث معها على فعل الخير وإن الله سمى نفسه رحيما ولكن تسمع مني في تلك اللحظة ومن ثم تعود إلى ما كانت عليه، وأنا أدعو لها وأدعو في كل وقت بأن ربنا يحنن قلبها، ولكن ربنا لما استجاب بعد ولا أخفيكم سرا أنه عندما تغضب مني لا يهنأ لي أكل ولا شرب فأخاف أن يحدث لها من أمر الله شيء وتموت وهي غضبانة علي، فأفيدوني كيف أتعامل معها، وهل أطيعها وأوقف الخير الذي أنا فيه، أنا منتظرة ردكم على أحر من الجمر، فلا تتأخروا علي بالرد السريع والشافي؟ وجزاكم الله عنا كل الخير.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن حق الوالدين عظيم، قد ثنى الله سبحانه وتعالى به بعد حقه في قوله: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا {الإسراء:23-24}، وفي قوله صلى الله عليه وسلم للذي سأله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك. متفق عليه.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى: ومعنى الإحسان إليهما؛ الصبر على جفائهما وتوقيرهما وتعظيمهما وطاعتهما ما لم يأمرا بمعصية.
وذكر السبكي رحمه الله في رسالته في بر الوالدين قال: الذي أراه في بر الوالدين وتحريم عقوقهما أنه تجب طاعتهما في كل ما ليس بمعصية ويشتركان في هذا مع الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم: اسمع وأطع ما لم تؤمر بمعصية. ويزيد الوالدان على الإمام بشيء آخر أنهما قد يتأذيان من قول أو فعل يصدر من الولد وإن لم ينهياه عنه فيحرم عليه ذلك لأنه يحرم عليه إيذاؤهما؛ بخلاف الإمام... قال: وإذا أمراه بترك سنة أو مباح أو بفعل مكروه فالذي أراه تفصيل: وهو أنهما إن أمراه بترك سنة دائما فلا يسمع منهما لأن في ذلك تغيير الشرع وتغيير الشرع حرام وليس لهما فيه غرض صحيح فهما المؤذيان أنفسهما بأمرهما بذلك. وإن أمراه بترك سنة في بعض الأوقات فإن كانت غير راتبة وجب طاعتهما، وإن كانت راتبة فإن كانت لمصلحة لهما وجبت طاعتهما، وإن كانت شفقة عليه ولم يحصل لهما أذى بفعلها فالأمر منهما في ذلك محمول على الندب لا على الإيجاب فلا تجب طاعتهما... وحاصله أنه يجب امتثال أمرهما والانتهاء من منهيهما ما لم تكن معصية على الإطلاق.. ويحرم إيذاؤهما مطلقا إلا أن يكون إيذاؤهما بما هو حق واجب لله فحق الله أولى. وكذا ذكر العيني في عمدة القارئ، والطرطوشي من المالكية وغيرهم.
فيجب عليك أيتها السائلة الكريمة أن تحسني إلى أمك غاية الإحسان وتصبري على جفائها وتنصحيها بحكمة ولطف، ولكن لا تجب عليك طاعتها فيما تأمرك به من الشح والبخل وقطيعة الجيران، فقد ذم الله تعالى ذلك وتوعد عليه، كما في قوله: الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا {النساء:37}، وقال تعالى: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة {آل عمران:180}، وذكر الطبري عن مجاهد في تلك الآية: أنهم سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة. وقد بين سبحانه وتعالى أن البخل من الشيطان، كما في قوله: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم {البقرة:268}.
وما ذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية الأولى قوله: الذين يبخلون.... إلخ، من أن المقصود هم اليهود الذين كتموا الكتاب أن يبينوه للناس، ولكن لفظ الآية أعم من ذلك فالبخل كله شر وأعظمه البخل ببيان الحق، كما هو سبب نزول الآية، وقد أخرج الطبري بسنده عن ابن مالك العبدي قال: ما من عبد يأتيه ذو رحم له يسأله من فضل عنده فيبخل عليه إلا أخرج له الذي بخل به عليه شجاعا أقرع، قال وقرأ: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله.... إلخ. وهذا يدل على شمول الآية للزكاة الواجبة وغيرها، وقد فسرها أبووائل كما عند الطبري: قال: هو الرجل الذي يرزقه الله مالا فيمنع قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله.
وإذا كان البخل بفضل المال وغيره من أنواع الإحسان كإرشاد التائه ودعوة الضال وغير ذلك من أعمال البر إذا كان ترك ذلك هو من لمة الشيطان وأمره بالبخل والفحشاء فلا تجب عليك طاعة أمك في ذلك، بل صلي رحمك وجارك وأحسني إلى من استطعت أن تحسني إليه، وإن كان الأولى أن تفعلي ذلك حيث لا تراك أمك ما دام يؤذيها مع نصحها الدائم وبيان الحق لها، وبذلك تجمعين بين الحسنيين إحسانك إلى الناس وبرك بأمك.
وينبغي ملاطفتها خشية غضبها ومدارتها بالقول الجميل والفعل الحسن، والدعاء لها أن توفق لفعل الخير والبعد عن الشر، قال الجصاص في أحكام القرآن: وليس لأبويه منعه من التصرف في المباحات التي ليس فيها تعرض للقتل. انتهى منه بتصرف. وقال ابن عبد السلام: ولم أقف في عقوق الوالدين ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه ... ولا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء. انتهى بتصرف يسير. وسبق أن بينا تفصيل السبكي للحكم فيما يأمران به، ومهما يكن من أمر فليست قطيعة الجار ومساعدة المحتاجين بفضل المال وغيره مما تجب طاعتهما فيه لغير غرض شرعي صحيح، وانظري الفتوى رقم: 9647، والفتوى رقم: 64743.
والله أعلم.