الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم {الزمر:53}، وقال جل وعلا: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم {المائدة:39}، فمن رحمة الله تعالى أنه يغفر الذنوب كلها لمن تاب منها ولو كانت شركا أو زنا أو غيره، كما قال سبحانه: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى {طـه: 82}.
والله أفرح بتوبة عبده من رجل سقط على راحلته وقد أضلها بأرض فلاة، فإذا تاب العبد توبة نصوحا مخلصة غفر الله سيئاته، بل بدلها حسنات، كما قال تعالى: فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما {الفرقان:70}، فمن غفرت ذنوبه، بل وبدلت حسنات لا يدخل النار، إلا إذا بقيت عليه ذنوب لم يتب منها، كمن تاب من الزنا ولم يتب من شرب الخمر، فهو تحت المشيئة إن شاء الله عاقبه وإن شاء غفر له؛ لقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء {النساء:48}، ولأن أمر التوبة عظيم فقد وضع الشرع لها شروطا لا تتم إلا بها:
أولها: الإقلاع عن الذنب فورا.
وثانيها: الندم على ما فات.
وثالثها: العزم على عدم العودة.
ورابعها: إرجاع حقوق من ظلمتهم، أو طلب البراءة منهم، فإن كان لا يمكن فاجتهد في الدعاء والاستغفار لهم. وسنذكر لك خطوات عملية تبين لك بوضوح كيفية التوبة بإذن الله تعالى:
1- عليك بالمراقبة لله في السر والعلانية، وهو القائل جل جلاله: وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير {الحديد:4}، فلا يليق بالعبد أن يقابل نعم ربه عليه بأن يعصيه وربه ناظر إليه مراقب لحركاته وسكناته.
2- معرفة ضرر الذنوب: فاعلم أن أثر الذنوب على العبد أشد ضررا من أثر السموم في الأبدان، وهذه المعرفة لأضرار الذنوب تجعلك تبتعد عن الذنوب بالكلية، وقد ساق ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء أضرارا كثيرة للذنوب منها: الوحشة في القلب- وتعسير الأمور- ووهن البدن- وحرمان الطاعة- ومحق البركة- وقلة التوفيق- وضيق الصدر- واعتياد الذنوب- وهوان المذنب على الله- وهوانه على الناس..... إلخ. فأنصحك بمراجعة هذا الكتاب القيم، فهو كتاب مليء بالفوائد والعظات.
3- ذكر الموت: كم سيعيش الإنسان؟ سبعين سنة.... مائة سنة.... ألف سنة.... ثم ماذا.... ثم يموت، ثم قبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
4- البعد عن أمكنة المعاصي وأربابها: فعليك أن تفارق موضع المعصية لأن وجودك فيها قد يوقعك في المعصية مرة أخرى، وأن تفارق من أعانك على المعصية، والله يقول: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين {الزخرف:67}، ولا يتم لك ذلك إلا بالابتعاد التام عن كل ما من شأنه أن ييسرها لك أو يشجعك عليها، أو يدفع بك إليها، وذلك كالهاتف والأماكن التي تجمع بينك وبين هذه المرأة أو غيرها من النساء، وما شابه ذلك من الأسباب.
5- تذكر الجنة والنار: فكيف يلهو ويغفل من هو بين الجنة والنار، ولا يدري إلى أيهما يصير؟ أما النار: فلو لم يكن فيها إلا قوله سبحانه: تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون {المؤمنون:104}، لكفى، فكيف وهي: وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين {البقرة:24}، ولو سيرت فيها جبال الدنيا لذابت من شدة حرها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم، كما في مستدرك الحاكم وحسنه الألباني عن أبي موسى الأشعري: إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم جرت، وإنهم ليبكون الدم.
وأما الجنة: فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. متفق عليه.
فما ظنك بدار ملأها الله من كرامته، وجعلها مستقرا لأحبابه وأوليائه، أرضها وتربتها المسك والزعفران، سقفها عرش الرحمن، بناؤها لبنة من فضة ولبنة من ذهب، والله لا يحرمها إلا محروم.
6- صحبة الصالحين: احرص على أن تختار من الصالحين من يعينك على نفسك وتتأسى به، قال صلى الله عليه وسلم: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. رواه أبو داود والترمذي.
7- احرص على فعل الواجبات وترك المحرمات، فحافظ على الصلاة في أوقاتها، وداوم على ذكر الله تعالى بالعشي والإبكار.
8 ـ تذكر عظم الذنب الذي وقعت فيه وسوء مغبته في الآخرة ، فإن الزنا بالمرأة ذات الزوج أعظم جرما من الزنا بالتي لا زوج لها، وذلك لتعلق حق الزوج برقبة الزاني، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: من تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فلا بد له من العوض في الآخرة، فينبغي للظالم أن يستكثر من الحسنات حتى إذا استوفى المظلومون حقوقهم لم يبق مفلسا.
وقال ابن القيم في الجواب الكافي: فالزاني بالمرأة التي لها زوج أعظم إثما من التي لا زوج لها؛ إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه، وتعليق نسب عليه لم يكن منه، وغير ذلك من أنواع أذاه، فهو أعظم إثما وجرما من الزنا بغير ذات البعل. وقال أيضا: وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه وأن يستام على سومه، فكيف بمن يسعى بالتفريق بينه وبين امرأته وأمته حتى يتصل بهما.. ففي ذلك من إثم ظلم الغير ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة إن لم يرب عليها.. ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة، فإن التوبة وإن أسقطت حق الله فحق العبد باق له المطالبة يوم القيامة، فإن ظلم الزوج بإفساد حبيبته والجناية على فراشه أعظم من ظلمه بأخذ ماله كله؛ ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه بأخذ ماله، ولا يعدل ذلك عنده إلا سفك دمه، فيا له من ظلم أعظم إثما من فعل الفاحشة. انتهى.
9 ـ تذكر أنك تكره هذا الفعل من زوجتك وابنتك وأمك، وكذلك يكرهه الناس لمحارمهم، وفي الحديث عن أبي أمامة: أن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه، فقال: ادنه فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. رواه أحمد وغيره، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح.
10ـ الإكثار من ذكر الله تعالى والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله عز وجل: ألا بذكر الله تطمئن القلوب {الرعد:28}، وفي الحديث عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه، قال: أبي قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي، فقال: ما شئت، قال: قلت: الربع، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قلت: النصف، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قال: قلت: فالثلثين، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذا تكفى همك ويغفر لك ذنبك. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الشيخ الألباني: حسن. والمراد بالصلاة هنا الدعاء.
وما ذكرته أيها الأخ السائل من كونك تصلي وتعمل في حقل الدعوة أقوى دافع لك على ترك ما أنت فيه، لأن الله تعالى يقول: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر {العنكبوت:45}، ولعل ما أوقعك في هذا مع تدينك هو الأخذ بمظهر التدين لا بحقيقته، فإن التدين الصادق لا تكمن حقيقته فيما يؤديه المرء من أعمال ظاهرة فحسب، بل التدين الحق هو دوام التعلق بالله تعالى، ولا يتم ذلك إلا بلسان دائم الذكر وقلب دائم الفكر وبدن يتعب من عناء تحصيل المراد.
ووصيتنا لك أيها الأخ أن تبحث عن عالم رباني يدلك على الخير ويعينك عليه، ولعلك تجد في القطر الذي تعيش فيه بغيتك. والله نسأل أن يتوب عليك، ويهيئ لك من أمرك رشدا، وأن يشرح صدرك، وأن يلهمك رشدك، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 8065، 25397، 35243.
والله أعلم.