الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاعلم أخي السائل وفقك الله لما يحبه ويرضاه، ورزقك الله برد اليقين، وطمأنينة الإيمان، وملأ قلبك بمحبته، وصرف عنك السوء والفحشاء، أن إطلاق العنان للنظر باب من أبواب فساد الدين والدنيا، وسبب من أسباب الحسرات والآلام، ومتى استمرأت النفس هذا المرض عسر عليها فراقه، وصعب عليها الفطام عنه، فإن النظرة تولد الخاطر، والخاطر يولد الفكرة، والفكرة تولد الشهوة، والشهوة تولد الإرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع، ولذا فإن العقلاء يدركون أن الصبر على غض الطرف أيسر من الصبر على ألم ما بعده، قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر * ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها * فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والعبد ما دام ذاعين يقلبها * في أعين الغيد موقوف على خطر
يسر ناظره ما ضر خاطره * لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
واعلم أخي الكريم أن لغض البصر فوائد جمة، يجتهد العقلاء في تحصيلها، ومن ذلك:
أولا: تخليص القلب من الحسرة فإن من أطلق نظره دامت حسرته، فأضر شيء على القلب إرسال البصر، فإنه يريه ما لا سبيل إلى وصوله ولا صبر له عنه، وذلك غاية الألم.
ثانيا: أن غض الطرف يورث القلب نورا وإشراقا، يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورث ظلمة وكآبة.
ثالثا: أنه يورث صحة الفراسة فإنها من النور وثمراته، فإذا استنار القلب صحت الفراسة، قال شجاع الكرماني رحمه الله تعالى: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات وأكل من الحلال، لم تخطئ فراسته.
رابعا: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه وذلك بسبب نور القلب، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، وانكشف له بسرعة، ونفذ من بعضها إلى بعض، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم، وانسد عليه باب العلم وأحجم.
خامسا: أن غض البصر يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة.
سادسا: أن غض البصر يورث القلب سرورا وفرحة أعظم من الالتذاذ بالنظر، فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله تعالى وفيهما مضرة نفسه الأمارة بالسوء عوضه الله سبحانه مسرة ولذة أكمل منهما.
سابعا: أن غض البصر يخلص القلب من أسر الشهوة، فلا أسر أشد من أسر الشهوة والهوى، فإن أسير الشهوة كعصفورة في كف طفل يسومها سوء العذاب والطفل يلهو ويلعب، وفوائد غض البصر كثيرة وفيما ذكرنا كفاية، ومتى أطلق البصر حدث له من العقوبات ضد ما ذكرنا من الفوائد.
فاجتهد أخي الكريم في غض بصرك، واعلم أن الله تعالى مطلع عليك يكره منك هذا الفعل، فلا تجعل ربك أهون الناظرين إليك، فتب وأصدق في توبتك، واجتنب مواطن التبرج والسفور، واحذر من كيد عدوك الشيطان الرجيم، ولا بأس أن تخبر خطيبتك بتوبتك، ولكن ينبغي أن تعلم أيضا أن خطيبتك أجنبية عنك، فلا يجوز لك النظر إليها ولا الخلوة بها ولا الحديث معها إلا عند الحاجة، ومتى رأت خطيبتك أنك قد طبقت غض البصر معها فلعل ذلك يكون مما يغير نظرتها إليك.
والله أعلم.