الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أعيش غربة شديدة بعدما ابتعدت عن الله.

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله.

أنا فتاة عادية، جميلة ومثقفة، وواعية بشهادة الجميع، وأحضر لدراسة الدكتوراه، يعني فاهمة وواعية بجد على المستوى العلمي فقط برأيي الشخصي، تخطيت الثلاثين قريباً، منذ أربع سنوات تعرفت على شاب في مثل عمري، ظروفه الشخصية مماثلة لظروفي، نعيش كلانا في وسط عائلة متفككة، لا تهتم بأفرادها، ولا يجمعهم سوى جدران البيت الذي يأويهم، كلانا ملتزم دينياً، ونخاف الله، ولا نقطع فرضاً، وفي رمضان كنا نضع برنامجاً صارماً للتعبد والتقرب من الله، نحن لسنا منحلين ولا هدفنا الدردشة كباقي الشباب، تعلقنا ببعض تعلقاً لا مثيل له، فكلانا يشكو للآخر ما به، ويساعده في حل المشكلات.

تقدم لخطبتي منذ سنتين تقريباً، وتم الرفض الشديد من أهلي، حاول عدة مرات وفشل في نيل رضاهم، ومع هذا بقينا على تواصل دائم، ليس يومياً، بل في كل لحظة، فلا تمر ساعة إلا ونحن نتكلم على الهاتف والنت ليلاً ونهاراً، لا يفرقنا سوى وقت النوم، فقد ملأنا أوقات بعض، وكل ما أردناه هو بيت صغير يجمعنا لا أكثر، وتحت ضغط الرفض المتكرر من أهلي استطعت إقناعه بالابتعاد وبدأ حياته لوحده، -والحمد لله- بعد شهور من الإقناع استطاع تخطي هذه المرحلة، ولم شمله بزوجة صالحة استطاعت أن تملأ عليه بيته.

مشكلتي الآن الفراغ القاتل الذي أشعر به، فبعد أن كان هناك من يملأ علي حياتي، من أحبني بصدق وإخلاص، غدوت وحيدة تتقاذفني أمواج الحياة، لقد أحببته بصدق، ورجوت الله أن يجمعنا معاً، ولم يكن هدفنا نحن الاثنان سوى الحلال في طاعة الله، أعاني الأمرين منذ عدة أشهر، فلا حياتي مع أهلي عادية، ولا يوجد بيننا أي تواصل، ولا هناك من أفتح له قلبي، خارت قواي، وأنا التي ما فرحت يوماً ولا شعرت بحلاوة الأسرة أو بمعنى الأب أو الأم، ولم أشعر بالإخوة الذين كانت تتصارعهم ضروب الحياة، لقد وجدت من عوضني عن كل هذا، وها قد سلبته مني الحياة.

ابتعدت عن الله وتركت صلاتي لفترة، حتى في رمضان هذا العام، تعمدت الإفطار في أكثر من يوم، أشعر بالخوف من الله، ومن البشر، ومن كل شيء حولي، ولا أدري ماذا أفعل، أهملت دراستي، وتركت عملي، فكل ما فيه يذكرني به وبكل لحظة أمل أعطاني إياها، عندي هستيريا فظيعة من الأماكن التي سبق وأن مررنا بها معاً، والأماكن التي تحدثنا فيها، حتى الأماكن التي كنت أجلس لأفتح النت وأحادثه فيها.

لا أستطيع النوم، أعاني من رهاب النوم، وأحمل هاتفي، أحاول أن أكلمه ثم أتراجع، فأنا أرجو له حياة هادئة بعيداً عني، ولا أستطيع تحمل الغربة التي أعاني منها، فلا أحد يقدر معنى أن يكون محاطاً بالحب والعطف والامتنان أعواماً، بعد أن عاش حياته متلهفاً على ابتسامة واحدة من عابر سبيل، ثم يحرم فجأة من كل هذا.

أتمنى الموت في اليوم عدة مرات، ولا يبعدني عن الانتحار سوى خوفي من الله، أريد حلاً، أريد أن أنسى كل ما مضى، وأبدأ من جديد، أريد أن أتعود على قسوة الحياة مرة ثانية، فتخور عزائمي، أريد أن أعود لله، أريد أن أغير حياتي، أدعو الله بالفرج، ولا أدري من أين أبدأ والفشل، يحيطني من كل مكان.

عذراً على الإطالة، ولكنني رأيت في موقعكم سعة صدر، وهو أملي الوحيد الآن.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ الغريبة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه.

بداية نرحب بك في موقعك، ونسأل الله أن يسهل أمرك، وأن يلهمك السداد والرشاد، هو ولي ذلك والقادر عليه. ونتمنى أن تعمري قلبك بحب الله -تبارك وتعالى-، بالحرص على طاعته، فإن الإنسان إذا شغل نفسه بالمهمة التي خُلق لأجلها وأحب العظيم الوهّاب الذي أنزل عليه النعم وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة {وإن تعدوا نعمة الله لا تُحصوها} إذا شغل الإنسان نفسه بحب الله -تبارك وتعالى-، وبعد ذلك كل ما في الحياة هينٌ، واستطاع أن يسعد في هذه الدنيا، أما إذا حصر الإنسان قلبه في شخص معين، وكانت هذه العلاقة غير منضبطة بأحكام الشرع وليس لها غطاء شرعي وعلاقة شرعية، فإن هذا قد يكون مصدر إتعاب للإنسان بعد أن كان مصدر إسعاد وهمي لحينٍ من الدهر.

ورغم أن العلاقة بينكما كانت نظيفة إلا أن الخطأ هو أن العلاقة بدأت بهذه الطريقة دون أن يكون لها غطاء شرعي، والإسلام لا يعترف بأي علاقة بين رجل وامرأة إلا بغطاء شرعي، وفق ضوابط هذا الشرع الحنيف الذي شرفنا الله تبارك وتعالى به، ولا يرضى بعلاقة لا يكون هدفها الزواج والارتباط على كتاب الله وعلى سنة النبي -عليه صلاة الله وسلامه- كذلك أيضًا الإسلام لا يرضى بأي علاقة ليس هدفها الزواج.

أنتم عمّقتم العلاقة، ثم بعد ذلك فكرتم في الزواج، ولذلك كان الرفض، والناس أعداء ما جهلوا، والمعروف أن الفتاة إذا شعرت أن الشاب يميل إليها فإنها عند ذلك تُخبره عن أهلها وتطلب منه بداية أن يأتي البيوت من أبوابها، وهذا يكون في البداية قبل أن تتعمق المشاعر، فقد لا تتم هذه العلاقة، فيكون هذا مصدر شقاء للطرفين، فقد تعيش الفتاة مع رجل وقلبها مع آخر، وكذلك الرجل قد يكون مع امرأة وقلبه مع أخرى، ولذلك نحن نريد أن نتحكم في هذه العواطف حتى لا تتحول إلى عواصف خارجة عن الطاعة والأرض الذي يُرضي الله -تبارك وتعالى-.

إذا كان الشاب قد تفهم الوضع واستطاع أن يبلغ العافية، فإنك أيضًا ينبغي أن تسيري في هذا الطريق وفي هذا الاتجاه، ولن تستطيعي أن تفعلي إلا إذا عدت إلى الإيمان، إلا إذا عدت إلى الرضا بقضاء الله وقدره، إلا إذا شغلت نفسك بالطاعة، ولذلك من الخطأ أن يقصّر الإنسان في طاعة الله في أيام الأزمات، والله يقول لعباده: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} وكان السلف إذا حزمهم أمر أو اشتد بهم الحال فزعوا إلى الصلاة، فكانوا يجدون في الصلاة راحتهم وطمأنينتهم وسعادتهم.

أما إذا ترك الإنسان الصلاة وترك الطاعة لله -تبارك وتعالى-، وابتعد عن كل ما يُرضي الله تبارك وتعالى، وقصّر في صيامه وذكره لله تبارك وتعالى، كل هذا من أجل شخص، فمعنى ذلك أنه يعيش حياته لشخص ولا يعيشها لله -سبحانه وتعالى- وهذا أيضًا هذا وحده مصدر للتوتر، ومصدر للشقاء، ومصدر لعدم الاستقرار النفسي، فكيف إذا تبع هذا هموم وغموم وأحزان؟

ومن هنا نحن ندعوك أولاً إلى التوبة من التقصير في الطاعات.

ثانيًا: كثرة اللجوء إلى الله -تبارك وتعالى-.

ثالثًا: طي تلك الصفحة لذلك الرجل الذي أصبح رجلاً لامرأة أخرى وتركك وعاش حياته، فلا معنى للجري وراء السراب، ولا خير في ود يجيء تكلفًا، ولا خير في علاقة لا تُوصل إلى ما يُرضي الله -تبارك وتعالى-.

رابعًا: عليك أن تفتحي آفاق علاقات ناجحة، ولكن هذه المرة مع نساء صالحات، وارتبطي بمراكز الحفظ لكتاب الله -تبارك وتعالى-، ودراسة العلوم الشرعية، فإن الإنسان إذا لم يشغل هذه النفس بالخير شغلته بالشر، إذا لم يشغلها بالحق شغلته بالباطل.

خامسًا: كذلك عليك بكثرة الذكر واللجوء إلى الله -تبارك وتعالى-، فإن هذا مصدر للطمأنينة، {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} والطمأنينة هي مما تميزت به حضارة الإيمان -حضارة الإسلام- والأطباء لم يجدو لها دواء بديل لا في الصيدليات ولا في غيرها، لأن دواءها واحد {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله}.

ثم عليك بالصلاة على النبي -عليه صلاة الله وسلامه- والإكثار من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله)، والإكثار من قول (حسبي الله ونعم الوكيل)؛ لأن من قالها ينقلب بعدها إلى ما قاله الله تعالى: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم}.

عليك كذلك بالرضى بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره، عليك كذلك ألا تنظري إلى الجانب المظلم في الأسرة، فلا تغلقي على نفسك الأبواب، ولا تحاصري جروحك في داخل الجسد، بل حلقي بهذه الروح في آفاق الذكر والإنابة والإخاء في الله -تبارك وتعالى-، ولكن هذه المرة مع نساء صالحات طيبات، يذكرنك بالله إذا نسيت، ويكن عونًا لك على الطاعة إذا ذكرتِ، لأن الإسلام لا يعترف -كما قلنا- بأي علاقة بين ذكر وأنثى إلا في إطار المحرمية أو في إطار العلاقات الزوجية، أما أن تؤسس فتاة علاقة مع رجل وتتمادى في هذه العلاقة وتُكثر من المكالمات والمراسلات، ثم بعد ذلك تأتي لتفكر في الارتباط هذا طبعًا بدايات خاطئة، والبدايات الخاطئة لا توصل إلى نتائج صحيحة.

ونحن نعتقد أنك إن شاء الله على خير ما دمتِ تكتبين هذه الاستشارة، ولكن نحذرك من التفكير في الانتحار، نحذرك من البُعد عن الطاعات، لأن الذي يبعد عن الطاعة في الأزمات كالذي يحرم نفسه الدواء وهو مريض، فلا يمكن أن يبلغ العافية بهذه الطريقة، لأن المعصية نفسها لها شؤم ولها آثار ولها ضيق، والله يقول: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى} فاحذري من التهاون في الطاعات، واعلمي أن مجرد التفكير في الانتحار هذا أمر ينبغي أن تتجنبي وأن تستغفري الله تعالى منه، لأن هذه كبيرة من أكبر وأعظم الكبائر والعياذ بالله، يخسر بها الإنسان الدنيا والآخرة، والأخطر من ذلك كأنها تعبير عن عدم الرضا بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره، والله -تبارك وتعالى- يبتلي الإنسان، فإن رضي فله الرضا وأمر الله نافذ، وإن سخط فعليه السخط وأمر الله نافذ.

لذلك هذه الحسرات وهذا الألم وهذا الحزن لا يغير من الأقدار ومما كتبه الله تبارك وتعالى، ولكننا نلجأ إلى الله ونواجه أقدار الله بأقدار الله، ببذل الأسباب والتوجه إلى مسبب الأسباب -سبحانه وتعالى-.

نسأل الله أن يهيأ لك من أمرك رشدًا، وأن يقدر لك الخير، وأن يلهمك الحق والصواب.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً