الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أوظف مقولة: ما كل ما يتمنى المرء يدركه، في حياتي؟

السؤال

السلام عليكم.

ما مدى صحة هذه المقولة: ليس كل ما يتمناه المرء يدركه؟ وكيف نعرف متى نقرر أن نواصل، ومتى يجب علينا أن نستسلم في رغباتنا وأمنياتنا؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبد الإله حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فأهلاً بك -أخي الكريم- في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله أن يبارك فيك، وأن يحفظك من كل مكروه وسوء.

وبخصوص ما تفضلت بالسؤال عنه: فاعلم -بارك الله فيك- أن هذا البيت للمتنبي في قصيدة مطلعها:

بِمَ التّعَلّلُ لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ *** وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَنُ

إلى أن قال:

مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ *** تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ

وهذا البيت يمكن تفسيره بطريقة سلبية كما تفضلت بالحديث عنه، من هؤلاء الشاعر العراقي عبد الرازق عبد الواحد، والذي نظم على غرار ذلك قصيدة ينقضها فقال:

تجري الرياح كما تجري سفينتنا *** نحن الرياح ونحن البحر والسفن
إن الذي يرتجي شيئًا بهمّتهِ *** يلقاهُ لو حـــــــــاربَتْهُ الإنسُ والجــــنُّ
فاقصد إلى قمم الاشياءِ تدركها *** تجري الرياح كما رادت لها السفنُ

ونحن لا نتصور البيت يدعو إلى الركون إلى القدر أو الاستسلام له، بل نراه يجسد واقعًا مفاده: أن الحياة مجبولة على الألم، وأن الابتلاء شيء أصيل فيها، وأنه لا سرور دائم، ولا حزن باق، بل الحياة فيها من هذا وذاك، وتلك طبيعتها كما قال الشاعر:

جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفوًا من الآلام والأكدار.

وقال غيره:
ثمانية لا بد منها للفتى ** ولا بد أن تجرى عليه الثمانية
سرور، وهم، واجتماع، وفرقة ** ويسر، وعسر، ثم سقم، وعافية

ثم الشطر الآخر يحض الشاعر فيها الناس على التعامل الإيجابي مع المصائب حين تقع.

وأيًا كان معنى الشاعر فيبقى حبيس مراده، والحكم علينا، وعلى الشاعر، وعلى الجميع الكتاب والسنة، وهما أي -الكتاب والسنة- قاضيان بأن البلاء من لوازم الحياة: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وأن الواجب على المرء العمل لا الركون ولا التعلل بالقضاء والقدر.

إذ من المعلوم أن الركن السادس من أركان الإيمان -أخي- وهو: الإيمان بقضاء الله وقدره، ويحض المسلم على أن يكون مسلّمًا لله عز وجل في كل كبيرة وصغيرة، مؤمنًا بأنه ما من شيء في هذا الكون يقع إلا وقد قدره الله، وأحاط علمه به قبل وقوعه، وأن ما وقع لا يخرج عن مشيئته وقدرته، فهو الخالق لكل شيء.

لكن هناك فرق هائل بين الإيمان بالقدر، والاحتجاج به، فنحن نؤمن أن كل شيء بقدر الله؛ بمعنى إذا أصيب العبد بمصيبة، وقال: هذا بقدر الله، وينبغي علي أن أصبر وأحتسب، فهذا حق وواجب يلتزم به، فقد أمر الله به عباده الصالحين، وقال تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ (الحديد:23).

لكن الخلل في من يفعل الذنب والمعصية ويصر على ذلك، أو يعمد إلى التكاسل، ولا يواجه الصعاب، ثم يحتج على فعله بأن ذلك هو قدر الله، فانتقل من دائرة الإيمان بالقدر إلى الاحتجاج به على معصيته، وهذا صنيع المشركين، فقد قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] هذا القول منهم ليس على سبيل الندم أو الحزن، بل على سبيل الاحتجاج بالقدر على المعصية، المصر عليها كقول إبليس: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر:39].

وهذا منهج أهل السوء، وأهل الزيغ والضلال، وشعارهم عندما قالوا: "أما وقد أغوانا الله بالمعصية فلنستمر عليها، وليس ذلك بإرادتنا، بل هو قدر الله"!

يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: " الْقَدَرَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ، وَوَعِيدِهِ ".

وهذا هو الفارق بين المؤمن والعاجز؛ فالمؤمن مسلم عامل، وأما أهل العجز ممن يحتجون على معصيتهم أو كسلهم بالقدر فلا يبنون، ولا ينتجون، ولا يصنعون مستقبلهم، ولذلك قال السلف: من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير.

وقال الشاعر، الفيلسوف، المسلم، الدكتور/ محمد إقبال:
(المؤمن الضعيف هو الذي يحتجُّ بقضاء الله وقدره، أما المؤمن القوي فهو يعتقد أن قضاء الله الذي لا يُرد، وقدره الذي لا يُدفع).

وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه، ونحن سعداء بتواصلك معنا، وفي انتظار المزيد من أسئلتك واستفساراتك، والله ولي التوفيق.

نسأل الله أن يوفقنا وإياك لعمل الخير، وخير العمل.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً