الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مرض أمي يؤثر علي ولا أستطيع تركها..فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا بنت بعمر 19 سنة، أمي وأبي منفصلان منذ مدة طويلة، وأعيش مع أمي، وهي مريضة بالفصام والاكتئاب، وهذا يؤثر علي بشكل سلبي، أُوذيت منها كثيراً، ومرضت جسدياً ونفسياً، وأصبت بالخوف، وعندما يأتيني هذا الشعور أذهب عند أبي عدة أيام، لكن أمي دائماً تكون خائفة أن أتركها، وأنا أخاف عليها أيضاً، وأرجع لها مرة أخرى وتعود أمي لمثل ما كانت عليه سابقاً، وأرجع للحضيض!

الآن أعيش بنفس الدوامة وأرى مستقبلي يضيع، لا صحة، ولا دراسة، ولا أنا بمهتمة بنفسي ولا بمن حولي، وحتى لو نمت طوال الليل أشعر أني لم أنم، وأمي دائماً تلومني، وتنشر عني الكلام أمام الناس، وأنا أحاول أن أُفهمها أن عندي اكتئاباً ومرض تبدد الشخصية.

كلما تبدأ أمي بأذيتي نفسياً أشعر بأني لست أنا، وأفقد الشعور بأي شيء آخر، ولا أستطيع التجاوب معها، وكأننا انفصلنا بعالَمَين مختلفين، وكلما أحاول أن أتكلم أشعر وكأني سيغمى علي، ومع كل هذا دائماً ما تتجاهلني، وتكذبني بكل شيء، وتقول لي بأنها تعبت معنا، ودائماً تلومني.

كل ما يحدث لي عند والدتي يتغير عندما أذهب لأبي، عندما أكون عند أبي أشعر براحة نفسية، وبالتدريج أرجع طبيعية وصحتي تتحسن.

أعرف أن أمي مريضة، لذلك لا أريد أن أتركها لوحدها، لكن وضعي يسوء! كيف أبتعد عن أمي دون أن أُوذيها؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Aya حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك -أختنا الكريمة- في موقعك إسلام ويب، وإنا نسأل الله الكريم أن يبارك فيك وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان وأن يرضيك به، إنه جواد كريم:

أختنا الكريمة: أنت في نزاع بين عاطفة الأم والحب لها، والخوف عليها، وبين ألم أصابك جراء تعبها ومرضها؛ مما أثر على نفسيتك، وأصبحت بين خيارين: إما راحة تجلب الألم والتعب لأمك، وإما راحة لها تجلب التعب عليك، وسؤالك ما الواجب على مثلي في هذه الحالة؟

الجواب عليها -أختنا-: إذا تعذر الجمع بين الراحتين وعجزت عن القدرة على التحمل والتعايش، فالواجب على الأبناء تقديم بر الوالدة ورعايتها على راحتهم، الواجب أن نتحمل ألمها ونجتهد في إزالته، وأن نبذل قصارى جهدنا للتخفيف عنها، هذا -أختنا- هو الواجب عليك شرعاً تجاه والدتك، لا سيما وهي مريضة، وإن لم تفعلي أثمت أمام الله تعالى، وفوق ذلك لن تجدي الراحة في البعد عنها وأنت مدركة ألمها وتعبها.

نقول لك: هذا ونحن نعتقد أن الجمع ممكن، وأنك تستطيعين التعايش مع إرضائها وطلب راحتك، وذلك باتباع ما يلي:

أولاً: التماس الأجر من الله -عز وجل-، والإيمان بأن كل لحظة بر تمر عليك هي رفعة لك بين يدي الله، وأجر عظيم يفتقده آلاف الناس اليوم، فإذا تسرب هذا اليقين إلى نفسك تبدل الحال، حتى تصلي إلى مرحلة التلذذ ببرها بعد فترة.

يعينك -أختنا- على هذا شحذ النفس بما ورد في كتاب الله وسنة نبيه وأحوال السلف الصالح في بر أهليهم؛ فإن هذا أعون لك، فإذا قرأت القرآن مثلاً وتذكرت قول الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء:23، 24]، علمت عظم ما أنت فيه من أجر.

يقول ربي: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ)، قال البغوي: الأف والتف: وسخ الأظفار، يريد لا تقل لهما ما فيه أدنى تبرم، قال مجاهد: لا تقذرهما كما كانا لا يقذرانك، (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً)، قال سعيد بن المسيب: "قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ"، أي: قولاً لينًا لطيفًا، طيبًا كريمًا يختلط فيه التلطف مع التذلل، والحب والعطف مع الاستمالة والاستكانة، كما قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).

إذا انتقلنا إلى السنة وجدت عشرات الأحايث التي تشحذ النفس إلى الطاعة ليستعذب العبد بعد ذل هذا البر، من ذلك ما ورد أن طلب مرضاة الله في مرضاة الوالدين وحسن صحبتهما، ففي الحديث: (رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين)، وهذا فضل عظيم.

قد صح كذلك عن رسول الله ﷺ حين قيل له: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله.

كذلك في الصحيحين عن أبي بكرة الثقفي عن النبي ﷺ أنه قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر -كررها ثلاثاً- قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور. فكما أن البر من أجل الطاعات كذلك العقوق من أكبر الكبائر.

إذا انتقلنا ثالثاً إلى مواقف السلف في البر وجدنا عشرات القصص التي تعينك على حب البر وتحمل تبعاته، من ذلك القصة المشهورة أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب: "إن لي أمًّا بلغ منها الكبر، إنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية -أي أنه يحملها إلى مكان قضاء الحاجة- فهل أديت حقها؟ قال عمر: لا؛ لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تفعله وتتمنى فراقها".

كذلك ما روي أن عبد الله بن عمر شهد رجلاً يمانيًّا يطوف بالبيت قد حمل أمه على ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل .. .. إن أذعرت ركابها لم أذعر
الله ربي ذو الجلال الأكبر
حملتها أكثر مما حملت .. .. فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟
قال: لا ولا بزفرة واحدة.

وقد نظم الشاعر فأحسن حين قال:
لأمــك حـــق لــو علمت كبــير .. .. كثيـــرك يا هــذا لديه يسير
فكــم ليـــلة باتت بثقـلك تشتكي .. .. لهـــا من جواهــا أنةٌ وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة .. فمن غصص منها الفؤاد يطير
وكم غســلت عنك الأذى بيمينها .. .. وما حجرهـا إلا لديك سرير
وتفديــك ممـــا تشتــكيه بنفســها .. .. ومن ثديـها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتـها .. .. حنــوًا وإشفــاقًا وأنت صغير
فآهــا لــذي عقـل ويتبع الهوى .. .. وآها لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها .. .. فأنت لمـــا تدعــو إلــيه فقـير

لما كان هذا حالها، حض الشرع على زيادة برها، ورعاية حقها، {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان:14]. وجاء رجل إلى سيد الأبرار الأطهار -صلى الله عليه وسلم- فقال: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك).

والله قد أمر الله بهذا البر مع الأم وإن كانت كافرة: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]. وفي الصحيحين عن أسماء -رضي الله عنها- قالت: (قَدَمَتْ عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم فاستفتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلُها؟ قال: نعم صِلِي أمك).

إذا كان الله قد أمر بحسن صحبتهما مع كفرهما، والمجاهدة في تحصيل برهما، فكيف الحال بالأم المريضة المسلمة الوحيدة التي لا سند لها بعد الله إلا أنت! تالله إن حقها عليك لعظيم، وإن القيام ببرها مع ما في ذلك من تعب من أجل العبادات والقربات إلى الله، والموفق من هدي إلي ذلك، والمحروم من حرمه.

ثانياً: استحضارك -أختنا- مرضها، وأن تفعل ذلك رغماً عنها بلا إرادة إيذاء لها، بل هو مرض يقودها إلى تخيل أمور لم تحصل أو ضيقة صدر لا تحسن معها ضبط الحديث، استحضارك هذا المرض مع جميل ما أسدت لك في صغرك من تعبها الطبيعي، وحرصها عليك، وحنانها الذي لن تجديه عند أحد من الناس مع وحدتها وعدم وجود من يقوم بشأنها؛ كل هذا يهون عليك ما أنت فيه.

ثالثاً: الاكتئاب -أختنا- ليس مرضاً أصيلاً ولا مرضاً لا دواء منه، بل له علاج طبي ونفسي وشرعي، ولذا نرجو منك زيارة طبيب مختص في ذلك بعد أن تقومي بما يلي:

1- المحافظة على الصلوات في أوقاتها.
2- المحافظة على الأذكار صباحا ومساء.
3- استحضار أجر برها وكذلك عقاب عقوقها.
4- قراءة سورة البقرة كل ليلة في البيت أو الاستماع لها.

استمري على ذلك فترة، فإن قل الاكتئاب فالحمد لله، وإلا فنرجو منك زيارة طبيب، وستجدين أن الأمر يسير -بفضل الله-.

ربعاً: اجتهدي أن تفعلي ما يرضيها حتى لا تغضب، كلمة: حاضر، وأبشري، والكلمات الإيجابية والردود الطيبة تخفف حدة غضبها من جهة، وتزيل التوتر الحاصل في الكلام من جهة أخرى، وفوق ذلك وذلك أجر عظيم ينتظرك.

اعلمي -أختنا- أن الوالدة التي معك اليوم ليست معك غداً، ووالله إن أمر ساعة ستمر عليك هي ساعة رحيلها عنك نسأل الله أن يبارك لك في عمرها، ويمكنك أن تسألي كل فتاة فقدت أمها بل وكل رجل فقد أمه، والله -يا ابنتي- إن فقدها ثلمة ورحيلها عناء، فاستغلي وجودها واستعيني بالله على برها، فالبر أجره عظيم، وهو مكفر للذنوب -يا ابنتي-، جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنبًا عظيمًا فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرها.

انظري -بارك الله فيك- كيف هو الأجر مع البر، ثم اعلمي أن البر دين، وأن ما تفعليه من خير سيفعله لك أولادك عند الكبر، ولك أن تضعي نفسك في مكان أمك، لو كنت أنت مكانها وحيدة مريضة، ولك فتاة ماذا كنت تتوقعين منها؟! اكتبي الآن ببرك ما ستفعله لك غداً ابنتك.

إن كان هناك من يبرك غيرها، من إخوة وأهل، فانظري ووازني الأمر، واجتهدي في حل هذه المشكلة بما يساعدك ويساعد والدتك، نسأل الله أن يعينك على برها، وأن يبارك لك في عمرها، وأن يشفيك ويشفيها إنه جواد كريم.

والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً