الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

متردد في اختيار التخصص الدراسي الشرعي، فما توجيهكم؟

السؤال

السلام عليكم.

أريد أن أدخل الجامعة وأتعلم العلوم الدينية، ولكن الجامعة قسمت العلوم إلى كليات، فإذا دخلت كلية القرآن، هل سأفقد الحديث وعلومه، والفقه؟ وإذا دخلت كلية الشريعة هل سأفقد علوم التفسير والحديث؟ ما الحل؟

والدي ينصحني بدخول كلية الشريعة؛ لما فيها من فقه وعلم، ولكنني أريد أن أدخل كلية القرآن؛ لكي أفهم القرآن فهمًا جيدًا، وأتعمق في تفسيره، فماذا أفعل؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ زبير حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أخي الكريم: نشكرك على ثقتك في طرح هذا السؤال المهم الذي يمسّ طموحاتك المستقبلية، ورغبتك في طلب العلم الشرعي، ونسأل الله أن يوفقك لما فيه خير دينك ودنياك، وأن يرزقك الإخلاص في طلب العلم، والبركة في مسيرتك العلمية.

أولاً: نتفهّم مشاعرك، ورغبتك الصادقة، لديك شعور جميل ورغبة نبيلة في التعمق في علوم الدين، سواء كان ذلك في تفسير القرآن الكريم، أو علوم الحديث والفقه، هذا الحماس يعكس صدق نيتك وإخلاصك في السعي لفهم دينك بشكل أعمق.

من الطبيعي أن تشعر ببعض الحيرة عند اتخاذ قرار مصيري كهذا، خاصة عندما ترى أن الخيارات المتاحة قد تؤدي إلى تركيزك في مجال على حساب آخر، لكن تذكر أن الحيرة ليست عيباً، بل هي جزء من عملية التفكير السليم والتخطيط الحكيم.

ثانياً: من المهم أن تدرك أن تقسيم العلوم الشرعية إلى كليات، أو تخصصات، هو أمر تنظيمي يهدف إلى تعميق التخصص وإتقان المجال، ولكن هذا لا يعني أن دراسة مجال معين ستمنعك من الاطلاع على المجالات الأخرى، على سبيل المثال: إذا اخترت دراسة القرآن الكريم وعلومه، فهذا لا يعني أنك لن تستطيع دراسة الحديث والفقه لاحقاً.

كما أن دراسة الشريعة لا تعني أنك ستفقد فرصة التعمق في تفسير القرآن، بل على العكس، يمكنك أن تبدأ من نقطة معينة وتوسع معارفك مع مرور الوقت.

ثالثاً: من الجميل أن والدك يهتم بمستقبلك العلمي ويرشدك بناءً على حكمته وتجربته، الإسلام يحثنا على بر الوالدين واحترام آرائهم، كما قال الله تعالى: "وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ"، ومع ذلك، فإن الوالدين في الأغلب يرغبان فيما يعتقدان أنه الأفضل لك، لكن القرار النهائي في اختيار التخصص يعود لك، حيث إنك أنت من سيعيش التجربة ويتحمل مسؤوليتها.

رابعاً: من الرائع أن تضع في اعتبارك أن العلم الشرعي بحر واسع، ولا يستطيع الإنسان أن يجمعه كله دفعة واحدة، فلكل مجال أهميته، ويمكنك استخدام الأساليب التالية لتحقيق توازن بين رغباتك وواقعك:

أولاً: اختر التخصص الذي تميل إليه أكثر، وتشعر أنك ستبدع فيه أكثر، في هذه الحالة، إذا كان قلبك يتجه نحو كلية القرآن، فتوكل على الله واخترها، فالقرآن الكريم هو أصل العلوم الشرعية، ومن خلاله يمكنك أن تبني قاعدة معرفية متينة لفهم بقية العلوم.

ثانيًا: لا تقصر دراستك على ما تتلقاه في الكلية فقط، يمكنك أن تسعى لتعلم العلوم الأخرى بطريقة موازية، على سبيل المثال، إذا اخترت كلية القرآن، يمكنك حضور دروس في الحديث والفقه خارج إطار الكلية، سواء عبر الإنترنت أو من خلال مشايخ في منطقتك.

ثالثًا: العلم الشرعي مترابط، فدراسة الفقه مثلاً تتطلب معرفة بالقرآن والحديث، والعكس صحيح، لذلك، مهما كان التخصص الذي تختاره، ستجد نفسك مضطراً لتعلم العلوم الأخرى، ولو بشكل أساسي.

رابعًا: قد يكون من المفيد أن تكون لك استشارة لعلماء، ومشايخ تثق بهم وبتجربتهم في المجالين، لتأخذ برأيهم بناءً على معرفتهم وخبرتهم.

خامساً: تذكر أن هذه الحيرة فرصة للتقرب إلى الله بالدعاء والاستخارة، صلاة الاستخارة هي سنة عظيمة أرشدنا إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما نواجه مثل هذه القرارات، قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن"، فقم بصلاة الاستخارة، وادعُ الله أن يختار لك الخير حيث كان، ثم امضِ بما يطمئن إليه قلبك.

• قال الحسن البصري رحمه الله: "العلم علمان: علم في القلب فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم"، اجعل نيتك دائماً خالصة لله، وستجد التوفيق في أي مجال تختاره.

• وتذكر قول الإمام الشافعي رحمه الله: "من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تكلم في الفقه نما قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رقَّ طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه".

سادسًا: من المهم أن تتذكر أن رحلة طلب العلم تحتاج إلى صبر ومثابرة، قد تشعر أحياناً بالضغوط أو الخوف من اتخاذ القرار الخطأ، لكن هذا طبيعي، ذكر نفسك أن الله ينظر إلى نيتك واجتهادك وليس إلى النتائج فقط، قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".

سابعًا: اعلم أن أي طريق تختاره في طلب العلم هو طريق مبارك، طالما أن نيتك خالصة لله، ركز على بناء نفسك تدريجياً، ولا تستعجل النتائج، العلم لا يُطلب دفعة واحدة، بل خطوة خطوة، قال الإمام الزهري: "من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وإنما يُطلب العلم على مرّ الأيام والليالي".

نسأل الله أن يشرح صدرك للقرار الذي فيه الخير، وأن يبارك في علمك وحياتك، وأن يجعلك من الذين ينفعون أمتهم بعلمهم.

إذا شعرت بالحيرة مجدداً، فلا تتردد في اللجوء إلى الله بالدعاء، وإلى أهل العلم بالمشورة، وإلى نفسك بالتأمل في ميولك ورغباتك.

وفقك الله وفتح لك أبواب العلم والبركة.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً