الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

والدي لا يحسن التعامل معنا وكثيراً ما يدعو عليّ لأسباب تافهة!

السؤال

السلام عليكم

أنا الأخت الكبرى بين أربعة إخوة، وجميعنا تجاوزنا الثالثة والثلاثين من العمر، نعيش مع والدَيَّ، ووالدي متقاعد، وكان يعمل أستاذًا في الجامعة، أما والدتي فهي ربة منزل.

دائمًا ما أشعر أن لدى والديّ مشكلة كبيرة في أسلوب التعامل معنا، رغم التزامهما الديني وطيبتهما، إلا إنهما لا يُحسنان النصح، ويغلب عليهما الخوف الزائد علينا، والذي يتحول أحيانًا إلى تصرفات غير مفهومة، فتنعكس الأمور سلبًا. كثيرًا ما يكون لديهما جمود وضيق أفق في التعامل مع المشكلات، حتى إن إخوتي نادرًا ما يتحدثون معهما.

ما يؤلمني حقًا هو أن والدي كثيرًا ما يدعو عليّ لأسباب تافهة، رغم أنني أعاني من مرض السكري منذ الطفولة، وأحاول قدر المستطاع ضبط أعصابي، نعم، قد أغضب أحيانًا، وأدرك أن ذلك لا يجوز، لكنني والله أبذل كل جهدي لأبرّهما وأتجنب إغضابهما.

والدي كثير الدعاء على الكافرين، ولكن أن يدعو عليّ بنفس تلك الأدعية فهذا يصيبني بالصدمة؛ لأنني أحبه كثيرًا وأدعو له باستمرار، حتى والدتي تقول له: "هذه أكثر واحدة تخاف عليك وتدعو لك، لماذا تدعو عليها؟"

ومع تكرار ذلك، بدأت أدعو على نفسي كثيرًا، وكرهت الحياة، أشعر وكأنها حمل ثقيل، لا أجد فيه أمانًا أو أملًا، أعاني من اكتئاب شديد، وأخشى البدء في العلاج النفسي.

أشعر بالقلق المستمر من المستقبل، خاصة مع حالتي الصحية، ومؤخرًا لم تعد لدي طاقة لأي عمل، وأشعر بالإجهاد الدائم، والحاجة للبكاء، ومشاعر سلبية متراكمة من قلق وحزن عميق وغضب شديد، وكأن الدنيا اسودّت في عيني.

الحمد لله، أنا أحفظ القرآن وأعلم أن ما أمرّ به هو ابتلاء، وأحاول الصبر. لا أفضل تناول أدوية الاكتئاب؛ لأنها ستكون التزامًا إضافيًا إلى جانب الإنسولين الذي أتناوله منذ الطفولة.

علمًا بأن لدي أخًا وأختًا يعانيان من اكتئاب حاد منذ خمس سنوات، ولا يزالان على العلاج حتى الآن.

فبمَ تنصحونني؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Sarah حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلا بك -أختنا المباركة- في موقعك إسلام ويب، وإنا نسأل الله الكريم أن يحفظك بحفظه، وأن يبارك في عمرك، وأن يصلح بالك، إنه جواد كريم.

وصلتنا رسالتك جيدًا، وفهمنا ما بين سطورها من ألم، وحمدنا الله على ما أنعم به عليك من حفظ كتاب الله، ومن البر؛ لذا دعينا -أيتها الفاضلة- نجيب عليك من خلال ما يلي:

أولًا: حقيقة البلاء ومكانته في الإسلام:
البلاء في الإسلام ليس غضبًا، ولا علامة بُعد، بل هو سنة من سنن الله في عباده المؤمنين، فقد قال الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ أي: هل يظن الناس أن مجرد قولهم "آمنا" يكفي دون امتحان يُظهر صدقهم وصبرهم؟ وقال سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾، فأنت الآن في ميدان اختبار، يختبر الله صدقك في الإيمان، وصبرك على مرارة القضاء كما اختبر الجميع ابتداءً من الأنبياء ومرورًا بالصالحين، فقد ابتُلي يوسف عليه السلام بالسجن والظلم والافتراء، وابتُلي أيوب عليه السلام بالمرض سنين طويلة حتى قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، فكان جزاؤه: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ﴾، وهكذا يفعل الله مع عباده، يمتحنهم ليطهّرهم ويقرّبهم.

وقد قال النبي ﷺ: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"، فانظري كيف أن البلاء رفعة وكرامة، لا مذلة ولا إهانة.

ثانيًا: برّ الوالدين رغم صعوبة التعامل:
برّ الوالدين فريضة عظيمة لا تسقط مهما قصّروا أو قسوا، بل يزيد أجر العبد إذا صبر على شدّة طباعهم، قال الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]، فجعل سبحانه كلمة "أف" صغيرة، لا تجوز للوالدين، فما بالك بما هو أكبر؟

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت النبي ﷺ: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها." قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين،" قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله." [رواه البخاري ومسلم]، فتأملي كيف قدّم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله!

ومع ذلك، لو دعا الوالد بغير حق، فالله سبحانه أعدل من أن يستجيب دعاء ظلم، أو غضب لحظة انفعال، قال بعض العلماء: "دعاء الوالد على ولده إن كان ظلمًا فإنه يُصرف عن الولد ويعود على الوالد بالوزر."

ثالثًا: برّ الوالدين: لا يخفاك أن برّ الوالدين باب عظيم للجنّة، قال ﷺ: "رَغِم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة"، فحتى إن قسوا في بعض الأوقات، أو دعوا بغير حق، فالله تعالى لا يستجيب هذا الدعاء، فهو أرحم بك من نفسك، بل يجعل لك الأجر بصبرك، وحسن تعاملك معهم، فاجعلي نيتك دائمًا: "اللهم هذا برٌّ لوجهك، قبل أن يكون لرضا والديّ"، ثم إذا اشتد الألم عليك، فتذكري حال أهل البلاء.

تذكّري أن هناك من هم أشد ابتلاءً منك:
- هناك من فقد والديه وأولاده وإخوته في قصفٍ واحد، وبقي وحيدًا لا يجد من يواسيه ولا من يمد له يد العون.
- وهناك من وُلد معاقًا جسديًا، أو فاقدًا للبصر والسمع، يعيش في عجزٍ كامل يعتمد فيه على غيره.
- وهناك من أُصيب بمرض السرطان في ريعان شبابه، يعاني الآلام المبرحة، ولا يملك ثمن العلاج، ومع ذلك يعيش بالأمل والدعاء.
- وهناك من حُرم نعمة الأمن، ينام تحت أصوات المدافع، أو في مخيم لا يجد فيه كسرة خبز، ولا غطاء يستر به جسده.

حين تقارنين حالك بحال هؤلاء؛ تجدين أن الله أبقى لك نعمًا عظيمة، والدان على قيد الحياة، بيت يأويك، نعمة القرآن تحفظينه، عقل واعٍ وقلب مؤمن، وقد قال بعض السلف: "إن رأيت مبتلى فاحمد الله على العافية"، وقال آخر: "لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس."

فالبلاء مهما اشتد، فيه ستر ورحمة خفية، وربما لو كشف الله لك الحكمة لقلت: "الحمد لله أن قدّر لي هذا البلاء ولم يقدّر غيره."

رابعًا: خطة للتعافي النفسي والروحي:

الجانب الإيماني:
- ورد يومي من القرآن بتدبر، ولو نصف حزب.
- ملازمة الاستغفار صباحًا ومساءً.
- الدعاء بثبات: "اللهم ارزقني برّ والديّ، واصرف عني همي، واملأ قلبي بالرضا."

الجانب النفسي:
- كتابة الهموم على ورق، ثم تمزيقها لتفريغ المشاعر السلبية.
- المشي أو الحركة الخفيفة يوميًا؛ فهي علاج للبدن والنفس.
- تخصيص وقت لهواية نافعة كقراءة، أو تعلم، أو استماع إلى محاضرة دينية أو دعوية؛ كل هذا مهم.

الجانب الأسري:
- تجنّب الجدال عند الغضب، والرد بكلمات قصيرة لطيفة.
- خدمة الوالدين بما يتيسر ولو بأمور صغيرة، طلبًا لرضا الله.
- الصمت عند اشتداد النقاش؛ فهو باب للسلامة.

خامسًا: التذكير بالأمل:
قال ابن القيم: "لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو كشف الغطاء لعلمتم أن البلاء كان نعمة". فلا تقولي: "كرهت الحياة"، بل قولي: "اللهم اجعلني من أحبّائك الصابرين، وارزقني قوة الرضا بقضائك"، فمن أحبّ الله، لم تعد الدنيا تساوي عنده شيئًا أمام وعد الله.

إذن لا تيأسي من دعاء والدك عليك، بل اصبري واحتسبي الأجر، وواصلي الدعاء له بالهداية والرحمة، واحتسبي الأجر عند الله، نسأل الله أن يحفظك، وأن يرعاك.

والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً