الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

والدنا تركنا ونحن صغار والآن أصبح مقعداً مشلولاً!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عندي كمية من المشاكل لا حصر لها، وأحس أنه ليس هناك حل لها، وأدعو ربنا كثيراً لكن ربنا له في ذلك حكم.

أبي أصيب منذ 5 سنوات بضمور في أجزاء المخ أدت إلى شلل في الأعصاب، يده الشمال ملتوية ورجلاه لا يستطيع المشي عليها، فأمي هي التي تخدمه، وهو يتبول على نفسه، ولكن في هذه الأيام بدأ يسب الدين، وله شهية مفتوحة يريد يأكل 24 ساعة، ويجلس أمام التلفزيون، ورغم أن عنده ضموراً في المخ، لكنه يعرف المسلسلات وأحداثها، ولا نستطيع أن نبعد عنه التلفزيون، وأمي أيضاً لم تعد تتحمله.

نحن منذ كنا صغاراً أصلاً ونحن بعيدون عنه، فليس هناك أي حب تجاهه، بل أصبحنا نكرهه، نحن 3 بنات وولد؛ لأنه رمانا عند أهل أمي ونحن صغار لا نفقه شيئاً، كان يسافر، ولم يدخر من المال شيئاً لأجل هؤلاء البنات، فأنا وأخواتي جلسنا عند جدي وجدتي، ولكن جدتي التي كانت لنا بمثابة الأم والأب ومنبع الحنان بالنسبة لنا توفيت، وظهر جدي هو الآخر علي حقيقته وبخله الشديد، وأصبحنا نصرف على البيت بمسئولية كاملة، وهو في عالم تكنيز الأموال، لمن؟ لا أعرف حتى في الفرح لا يريد أن يجيء عندنا، الهم والحزن هما المسيطران علينا.

أنا وأختي نعمل، وأختي الثالثة في الجامعة، وأخي في المدرسة، فأنا ساعات كثيرة أفكر في مثل هذه الأشياء، ولكن في زيادة المشاكل وليس حلها، فأظل أقول: لو أن أبي يموت أو جدي يموت، فنستريح، لكن ربنا له في ذلك حكم، فأنا وأخواتي نقعد نتفكر لو قدر الله أن أمي ماتت فمن يخدم أبي؟ وهل هناك دار تأخذه بمثل حالته هذه؟ وهل يوجد علاج يقوي الأعصاب عنده؟

وأيضاً أمي في هذه الأيأم بدأت تظهر عليها الأمراض والعمليات، وهي الآن تشتكي من تنميل في دماغها وهي نائمة، وينزل على يديها ورجليها، فهل ذلك مرض أم من التفكير والقلق؟ نحن نبحث عن حل، وأرجو الدعاء.

أنا آسفة على عدم تناسق الكلمات، لكني كنت أريد أن أخرج كل الذي عندي.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ياسمين حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فقد اطلعت على رسالتك وتدارستها بكل عناية، والذي استطعت أن أستخلصه من رسالتك أن لديك معاناة حقيقية في عدم قبول الآخر، وهذا الآخر عندما يكون الوالد أو الجد يصبح الأمر أيضاً أكثر أهمية؛ لأن والدك هو والدك وهذه الحقائق لا يستطيع أحد أن يغيرها، وله حقوق أوضحها الشرع الكريم في صورة جلية وواضحة جدّاً.

ولا أريد أن أكون منتقداً لك، لا أريد أبداً أن أكون سبباً في المزيد من القلق والكدر بالنسبة لك، نحن من واجبنا أن نوجهك ونرشدك، وربما يكون هناك اختلاف في وجهات النظر، ولكن هدفنا الأساسي في نهاية الأمر أن الأمور يجب أن تصب في مصلحتك وفي مصلحة أسرتك.

ولا أريدك أبداً أن تحكمي على والدك بما مضى، احكمي عليه الآن، الرجل فيما أستطيع أن أستشفه يعاني من علة دماغية رئيسية أفقدته التحكم في مخارجه، ولا شك أيضاً أنه يعاني من فقد للاستبصار وأصبح غير مرتبط بالواقع، وفي أغلب الظن يكون قد افتقد الأهلية أيضاً، هذه التصرفات التي تبدر منه الآن دليل -أستطيع أن أقول- على أنه قد افتقد الأهلية، وما يبدر منه من تصرفات نسأل الله أن يغفر له وأن يشمله برحمته، وبالطبع ليس على المريض حرج، وفيما يقوله الآن وما يبدر منه من تصرفات فأمره إلى الله، أما أنت من جانبك وكذلك أهلك وكل من يستطيع من أخواتك ووالدتك أن يقدم له كل ما يمكن من خدمة، فهذا واجب حتمي، وأنا على قناعة كاملة أنه في نهاية الأمر الإنسان الذي يقصر في حق والديه سوف يحس بالذنب في يوم من الأيام، والإنسان الذي يبر والديه خاصة إذا كان يعتقد أن أحد الوالدين أو كليهما لم يحسن تربيته، وبالرغم من ذلك قام ببره؛ فإن هذا الإنسان سوف يشعر بالرضا، وسوف يكون شعوراً عظيماً، والإنسان لابد أن يحتسب الأجر في مثل هذه المواقف.

أنا أعتقد أنه قد فُتح لك باب من أبواب الخير، فأرجو ألا تغلقيه، وهو باب يوصل إلى الجنة ببرك لوالديك مهما كان ما يبدر منهم من تصرفات، قال تعالى: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا))[الإسراء:23-24]، أرجو ألا تغلقي هذا الباب، فأنت -الحمد لله- في ريعان شبابك، وأنت لك القوة الجسدية، ولديك القوة الوجدانية، ولديك إن شاء الله رجاحة العقل، ما الذي يجعلك مستسلمة لهذه النزعات السلبية؟! ليس هنالك ما يدعوك لذلك أبداً، هذا ابتلاء بسيط جدّاً مقارنة مع ما يحدث لكثير من الناس، فأرجو حقيقة أن تغيري مفاهيمك حيال هذا الذي يحدث، وما تقوم به والدتك أعتقد أنه الواجب، وهذا أقل الواجب، فأرجو أن تساعديها، وأرجو أن تسانديها، وهذا أيضاً باب من أبواب المساعدة الجيدة جدّاً.

وهناك أمر آخر: الآن الطب يمكن أن يقدم الكثير في مثل هذه الحالات، فهذه التصرفات والاضطرابات السلوكية التي تبدر من الوالد يمكن أن تعالج عن طريق العلاجات النفسية والعلاجات العصبية، الطب تقدم جدّاً، ونحن نشاهد الكثير من مثل هذه الحالات ونصف لهم الأدوية التي تساعدهم، وذلك بالتعاون مع زملائنا في طب الأعصاب والطب الباطني، هنالك الآن بروتوكولات ومخارج علاجية ممتازة جدّاً، فأرجو أن تسعي في هذا الطريق.

دائماً نحن ندعو لمساندة المساند، ففي هذه الحالة المساند يجب أن تكوني أنت وأخواتك ووالدتك، نحن نساندك بمثل هذه النصائح، وأنت عليك أن تساندي والدتك فيما تقوم به من رعاية لوالدك، ولا تقلقي حول المستقبل، فهذه الفرضيات التشاؤمية التي وضعتها: ماذا يحدث إذا ماتت أمي وتركت الوالد في هذه الحالة؟ هذه حقيقة فرضيات تشاؤمية وخطأ، الأمر كله بيد الله، والحلول دائماً موجودة، ورحمة الله دائماً هي الأعم، فأرجو ألا تعيشي تحت هذا القلق التشاؤمي، انظري إلى الحياة نظرة مختلفة، الناس كلهم يجاهدون والناس كلهم يكابدون، فلا يأتي نجاح أبداً إلا بالمثابرة وبتحدي الصعاب ومواجهتها وإيجاد الحلول، فالكون يسير في توازن عظيم، فلابد أن يكون هنالك خير وشر، ولابد أن يكون هنالك قوة وضعف، وانشراح وكدر، وهكذا، والإنسان المستبصر يوازن ويتمعن في مثل هذه الأمور.

أنا أكرر أنه قد فُتح لك باب من أبواب الخير فأرجو ألا تغلقيه، وأنت -الحمد لله- لديك وظيفة وكذلك أختك.

وهذه النظرة السلبية عن الجد، لماذا كل هذا؟ دعيه في حاله إذا أنت رأيت أنهم بخلاء وأنهم لا ينظرون إلى الأمور بعطف ورحمة، هذا شأنهم وأنت قومي بواجبك، نحن نقول: إن تقصير الآخرين فيما هم فيه من مسئولية وعدم القيام بواجباتهم يجب ألا يجعلنا نحن نبرر تصرفاتنا السلبية ونقع في نفس الخطأ الذي وقعوا فيه وربما أكثر، لا، ضعي منهجيتك ومعاييرك القيمية التي تقوم على التسامح، على التراحم، على تقوى الله، على احتساب الأجر، وأن تعرفي أن لهذه الأرحام حقوقاً.

ولا أعتقد أبداً أنك في حاجة إلى علاج دوائي، لكن عليك أن تتواءمي مع هذه الظروف التي حولك، وعليك أن تعرفي أن أمامك مسئولية، وأنت إن شاء الله أهل لها، حاولي أن تسعدي نفسك وتسعدي من حولك، لا تنظري للحياة بهذه الظلامية، نسأل الله لك التوفيق والسداد، ونشكرك على التواصل مع إسلام ويب.

وبالله التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً