الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تحلي الرجال بالجواهر النفيسة

السؤال

أود أن أسال: لماذا تم تحريم خاتم الذهب على الرجال وأحل لهم لبس خاتم الألماس وباقي الجواهر طالما أنه ليس تشبها بالنساء ـ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لبسه ـ ولا لسبب الترف، لأن الجواهر أغلى من الذهب والخيلاء مثله مثل أي خاتم آخر؟ فلماذا الذهب بالذات وعلى الرجال خصوصا؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فاعلم أولا أن مقتضى العبودية لله تعالى أن يستسلم المكلف لحكم الله تعالى سواء ظهرت له علة الحكم، أو لم تظهر، فلا يتوقف انقياده على ظهور العلة، بل هو يؤمن أن الله تعالى حكيم لا يشرع شيئا إلا لحكمة، وقد تظهر هذه الحكمة وقد تخفى على العبد لقصور عقله وعلمه، فانقياده لا يتوقف على معرفته لتلك الحكمة وإحاطته بها، ولذلك ذكر الهروي في منازل السائرين أن من تعظيم الأمر والنهي أن لا يحمل على علة توهن الانقياد، قال ابن القيم ضمن شرحه لهذه العبارة: وَلِهَذَا كَانَتْ طَرِيقَةُ الْقَوْمِ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِعِلَلِ التَّكَالِيفِ خَشْيَةَ هَذَا الْمَحْذُورِ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَقُولُوا: لِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَلَكِنْ قُولُوا: بِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْأَمْرَ حَتَّى تَظْهَرَ لَهُ عِلَّتُهُ، لَمْ يَكُنْ مُنْقَادًا لِلْأَمْرِ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ: أَنْ يَضْعُفَ انْقِيَادُهُ لَهُ. انتهى.

فإذا علمت ما مر فإن العلماء ذكروا في حكمة تحريم الذهب على المكلفين إلا ما استثني من إباحة تحلي النساء به ما في ذلك من السرف والفخر والخيلاء، وما كان من هذا الباب فإنه تبيحه الحاجة كما أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما، مع أن لبس الحرير حرام على الرجال، ولما كانت حاجة النساء داعية إلى التزين لما جبلن عليه من النقص ولما في ذلك من مصلحة الأزواج أبيح لهن التحلي بالذهب دون الرجال لانتفاء حاجتهم إلى ذلك، وحرم على الجميع استعمال أواني الذهب وما في معنى الأواني من الأدوات لعدم وجود الحاجة إلى ذلك، يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله: ثُمَّ مَا حُرِّمَ لِخُبْثِ جِنْسِهِ أَشَدُّ مِمَّا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِن السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، فَإِنَّ هَذَا يُحَرِّمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْهُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ كَمَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ، وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، وَأُبِيحَ لِلرَّجُلِ مِنْ ذَلِكَ الْيَسِيرُ كَالْعلمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَوَازُ التَّدَاوِي بِهَذَا الضَّرْبِ دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بهما. انتهى.

وأما ما استشكلته من إباحة التحلي بالجواهر النفيسة للرجال مع تحريم التحلي بالذهب، وأن ذلك لو كان من باب السرف والخيلاء لحرمت تلك الجواهر كذلك: فجوابه أن هذه المسألة ليست محل اتفاق، فمن العلماء من ذهب إلى تحريم تحلي الرجال بهذه الجواهر وأن جواز التحلي بها خاص بالنساء كالذهب، وعليه فلا يرد هذا الإشكال، جاء في الموسوعة الفقهية: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ لُبْسِ اللُّؤْلُؤِ لِلرِّجَال، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إِلَى حُرْمَةِ لُبْسِ اللُّؤْلُؤِ لِلرِّجَال، لِكَوْنِهِ مِنْ حُلِيِّ النِّسَاءِ فَفِي لُبْسِهِ تَشَبُّهٌ بِهِنَّ، وَنَقَل الرَّمْلِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةَ لُبْسِ اللُّؤْلُؤِ لِلرِّجَال، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلرَّجُل أَنْ يَتَحَلَّى بِاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ. انتهى.

وعلى القول بالإباحة، فالفرق هو ما ذكروه في إباحة الأواني المتخذة من الجواهر النفيسة مع تحريم آنية الذهب، وقد حكى ابن قدامة الخلاف في اتخاذ الآنية من الجواهر النفيسة، وبين وجه الفرق بينها وبين آنية الذهب والفضة وهو نظير ما نحن فيه، فقال ما مختصره: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: مَا كَانَ ثَمِينًا لِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْأَثْمَانِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ سَرَفًا وَخُيَلَاءَ وَكَسْرَ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، فَكَانَ مُحَرَّمًا كَالْأَثْمَانِ، ولنا أن الْأَصْلَ الْحِلُّ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَثْمَانِ، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ، فَلَا تَنْكَسِرُ قُلُوبُ الْفُقَرَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ، بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ لِقِلَّتِهَا لَا يَحْصُلُ اتِّخَاذُ الْآنِيَةِ مِنْهَا إلَّا نَادِرًا، فَلَا تُفْضِي إبَاحَتُهَا إلَى اتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا وَتَعَلُّقُ التَّحْرِيمِ بِالْأَثْمَانِ الَّتِي هِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَظِنَّةِ الْكَثْرَةِ، فَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ، كَمَا تَعَلَّقَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ فِي اللِّبَاسِ بِالْحَرِيرِ، وَجَازَ اسْتِعْمَالُ الْقَصَبِ مِنْ الثِّيَابِ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى قِيمَةِ الْحَرِيرِ. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني