الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالتصوف والصوفية مصطلح حادث وهو بهذا الاعتبار لا يتعلق به مدح ولا ذم ولم يكن معروفا في القرون الثلاثة المفضلة، وإنما اشتهر الكلام بهذا اللفظ بعد ذلك, وأول ما ظهر التصوف في البصرة لما كان في أهلها من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك، وكانت بدايته سليمة نهجه بعض أهل العلم والزهد والورع كالجنيد وقيدوه بضوابط الشرع وكان مقصده الزهد في الدنيا, والتفرغ للعبادة, ومجاهدة النفس, وحملها على الأخلاق الجميلة, وذلك بسبب ما ظهر من الانغماس في الملذات والإقبال على الدنيا, ثم انتسب إلى الطريق وادعى هذا المسلك طوائف من أهل البدع والزندقة, فتشعب التصوف وتنوع, وصار أهله أصنافا، والمشاهد للصوفية المعاصرة يجد أنها تشتمل على كثير من البدع والشركيات, والمذاهب الفلسفية, ولذا يجب الحذر والتفصيل والوقوف على حقائق الأشياء وعدم الاغترار بدعاوى الولاية والصلاح ولو أجرى الله على أيديهم خوارق العادات، فإن الخوارق تقع على يد الكافر والملحد والفاسق كما تقع على يد المؤمن، ولهذا قال الجنيد ـ رحمه الله: عملنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب ولم يكتب الحديث, فلم يتفقه, فلا يقتدى به. وقال: الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته, لأن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه, وعلى المقتفين أثره والمتابعين له.
فطريق الولاية في الكتاب والسنة هو المحافظة على الفرائض والحرص على النوافل, والتحقق بمقامات الإيمان والتزين بلباس التقوى، وراجع للتفصيل الفتوى رقم: 8500.
والمعيار هو موافقة هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وهدي أصحابه قولا وعملا, ولا ريب أن من أهل التصوف المتقدمين ومن سار على نهجهم من المتأخرين من كان محققا لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم مجتنبا للبدع والمحدثات والله لا يضيع أجر أحسن عملا، لكن ذلك قد يكون غائبا عن المذاهب الصوفية المنتشرة اليوم في العالم الإسلامي، ومهما يكن من أمر فجملة ما ذكرته من المعاني كالحقيقية المحمدية والفناء في الله والروح الجسماني والتجلي، أو التجليات كلها من مصطلحات القوم وهي تعني إجمالا: الحقيقة المحمدية أي ماهيتها وكنهها الحقيقي وهو مصطلح يقوم على اعتقاد مضاده أن النبي صلى الله عليه وسلم: ليس بشرا، بل هو نور أزلي تجلى في آدم واستمر في سائر الأنبياء حتى تحقق بصورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وانظر كلام الصوفية على الحقيقة المحمدية في هذه الصوفية للشيخ: عبدالرحمن الوكيل.
وأما الفناء في الله والتجلي والتجليات: فهي مقامات لدى القوم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الفناء الذي يوجد في كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور:
أحدها: فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب, والتوكل عليه وعبادته, وما يتبع ذلك, فهذا حق صحيح.
الأمر الثاني: فناء القلب عن شهود ما سوى الرب, أي فناء عن العلم بالغير والنظر إليه, وهذا الفناء فيه نقص.
الثالث: فناء عن وجود السوى بمعنى أنه يرى أن الله هو الوجود, وأنه لا وجود لسواه, لا به ولا بغيره, وهذا القول والحال للاتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقانوني ونحوهم. انتهى.
ووانظر الفتوى رقم: 134363
والتجلي والتجليات عند الصوفية لها مظاهر وأحوال ومراتب بعضها حق وأكثرها باطل وضلال، والتجلي في تعريف الغزالي: هو ما يتكشف للقلوب من أنوار الغيوب ـ ثم جاء ابن عربي فجعل للتجلي معان وأبعادا تحمل مفاهيم تصادم العقيدة الصحيحة.
والروح الجسماني: يعني أن الروح يراد بها معنيان:
أحدهما: كونها جسما لطيفا منبعه تجويف القلب؛ كما يقول الغزالي في الإحياء.
والمعنى الثاني للروح: هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان. وانظر بسط ذلك في الإحياء.
وعلى كل، فهذه المصطلحات يكثر تداولها في كتب الصوفية ولها معان يقصدونها أقربها ما بيناه.
وأما من ذكرت من الصوفية: فهم ليسوا على درجة واحدة، بل منهم الصالح ومنهم الطالح، فالجيلاني عبدالقادر عالم فاضل أثنى عليه العلماء، كما بينا في الفتوى رقم: 24734
والغزالي عالم جليل من علماء المسلمين وإن وقع في أخطاء وشطحات بعض غلاة الصوفية، كما بينا في الفتوى رقم: 7667
وأما ابن الفارض أحمد والدسوقي: فيعدان من غلاة الصوفية، بل ممن رموا بالإلحاد والزندقة، وانظر الفتويين رقم: 39478، ورقم: 11542.
وعلى كل، فلا مقارنة بين من ذكرت وبين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما المقارنة بين ما قد يحصل للمتأخرين عند المبالغة في العبادة والزهد ونحوه من الهيمان، أو يغشى عليه ويصعق ونحو ذلك فمرده وسببه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما تحدث عن مصطلح فناء القلب عن شهود ما سوى الرب قال: ولهذا كان الصحابة أكمل شهودا من أن ينقصهم شهود للحق مجملا عن شهوده مفصلا ولكن عرض كثير من هذا الكثير من المتأخرين من هذه الأمة، كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق الموت والغشي والصياح والاضطراب, وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه, وعن شهود التفرقة في الجمع, والكثرة في الوحدة. انتهى باختصار.
وأما الكرامات: فقد وقعت لبعض الصحابة وأئمة السلف وأجرى الله على أيديهم من خوارق العادات كما ذكرت وغيره مما بيناه في الفتاوى التالية أرقامها: 34071، 53617، 20692.
وخلاصة القول: أن الميزان الشرعي لمقياس الصلاح والتقوى والولاية هو الالتزام بأوامر الشرع والتقوى، وأما خوارق العادات فقد يعطيها الله لأوليائه كرامة ويعطيها للفاسقين والعصاة استدراجا فليست ميزانا ولا مقياسا، والصوفية وإن كان في سلفهم بعض أهل العلم والورع والصلاح ومن بينهم من يلتزم بأومر الشرع فالغالب عليهم في هذا الزمان أنه دخل فيهم من ليسوا من أهل الصلاح والعلم حتى غلب عليهم فصار التصوف والصوفية اليوم مرادفا عند كثير من الناس على الضلال والبدع، ولمزيد الفائدة حول منهج التصوف ورجالاته وأقسامه انظر الفتوى رقم: 53523
والله تعالى أعلم.