الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف أهل العلم في النهي عن المنكر هل هو فرض عين أم فرض كفاية، واختلفوا هل يشترط في ذلك قبول الناس أم لا.
فقد قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف. قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول. اهـ.
وقال الخرشي في شرح المختصر : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية بشروط أن يكون الآمر عالما بالمعروف والمنكر لئلا ينهى عن معروف يعتقد أنه منكر، أو يأمر بمنكر يعتقد أنه معروف، وأن يأمن أن يؤدي إنكاره إلى منكر أكبر منه , مثل أن ينهى عن شرب خمر فيؤدي إلى قتل نفس ونحوه، وأن يعلم أو يظن أن إنكاره يزيل المنكر وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع . وبفقد الشرطين الأولين يحرم الأمر والنهي، وبفقد الثالث يسقط الوجوب ويبقى الجواز أو الندب والمشهور عدم اشتراط العدالة وإذن الإمام. ابن ناجي: ويشترط ظهور المنكر من غير تجسيس ولا استراق سمع ولا استنشاق ريح ولا بحث عما أخفى بيد أو ثوب أو حانوت فإنه حرام. اهـ
وقال السفاريني في شرح منظومة الآداب : هل من شرط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رجاء حصول المقصود أو لا ؟ على روايتين عن الإمام أحمد رضي الله عنه . نقل أبو الحارث الوجوب , ونقل حنبل عكسه . قال في نهاية المبتدئين : وإنما يلزم الإنكار إذا علم حصول المقصود ولم يقم به غيره , وعنه إذا رجا حصوله , وهو الذي ذكره ابن الجوزي , وقيل ينكره وإن أيس من زواله وخاف أذى أو فتنة . وقال في نهاية المبتدئين : إنما يجوز الإنكار فيما لا يرجى زواله وإن خاف أذى , وقيل لا , وقيل يجب . والذي ذكره القاضي في المعتمد أنه لا يجب، ويخير في رفعه إلى الإمام خلافا لمن قال يجب رفعه . قال في الآداب : وإذا لم يجب الإنكار فهو أفضل من تركه , جزم به ابن عقيل . قال القاضي خلافا لأكثرهم في قولهم ذلك قبيح ومكروه إلا في موضعين : ( أحدهما ) : كلمة حق عند سلطان جائر . ( والثاني ) : إظهار الإيمان عند ظهور كلمة الكفر . انتهى.
وقال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية: حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن الإمام أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه , وصحح القول بوجوبه , وهو قول أكثر العلماء . وقد قيل لبعض السلف في هذا فقال: يكون لك معذرة , وهذا كما أخبر الله عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم: { لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } قال الحافظ : وقد ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به . ففي سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية { عليكم أنفسكم } فقال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: { بل ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام } . وفي سنن أبي داود أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكرت الفتنة فقال { إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم , وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه . فقمت فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك ؟ قال: الزم بيتك , واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف , ودع ما تنكر , وعليك بأمر خاصة نفسك , ودع عنك أمر العامة } وكذلك روي عن طائفة من الصحابة في قول الله تعالى { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قالوا: لم يأت تأويلها بعد , إنما تأويلها في آخر الزمان . والله ولي الإحسان . إذا علمت ما ذكرت لك فعلى العالم بالحظر والفعل مع عدم القائم به غيره حيث أمن على ما مر , الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . . اهـ
ويشترط في الشيء المنكر أن يكون ظاهرا من غير تجسس، إلا عند التأكد من حصول منكر يخشى فوته فيجوز التجسس في مثل هذه الحالة .
قال الماوردي في الأحكام السلطانية: ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار حذرًا من الاستتار بها، فإن غلب على الظن استمرار قوم بها لأمارات دلت، وآثار ظهرت، فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلًا خلا بامرأة ليزني بها، أو برجل ليقتله، فيجوز له في مثل هذه الحالة أن يتجسَّس ويقدم على الكشف والبحث، حذرًا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم، وارتكاب المحظورات. والضرب الثاني: ما خرج عن هذا الحد وقصر عن حد هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه. اهـ.
وأما الإنكار القلبي فلا يسوغ الاقتصار عليه إلا إذا عجز المسلم عن إنكار المنكر بيده ولسانه لعدم استطاعته ذلك، أو لما ينزل به من ضرر ، أو لما قد يترتب على ذلك من مفسدة أكبر من المنكر الذي ينكره فهو معذور في ترك ذلك الإنكار، وإن أمكنه الاستعانة بالسلطة لمنع المنكر وقت حصوله فعليه ذلك.
قال الشيخ زكريا في أسنى المطالب: ( والإنكار ) للمنكر أخذا من الخبر السابق ( يكون باليد , فإن عجز فباللسان ) فعليه أن يغيره بكل وجه أمكنه، ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد، ولا كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان ( ويرفق ) في التغيير ( بمن يخاف شره ) وبالجاهل فإن ذلك أدعى إلى قبول قوله وإزالة المنكر ( ويستعين عليه ) بغيره ( إن لم يخف فتنة ) من إظهار سلاح وحرب ولم يمكنه الاستقلال ( فإن عجز ) عنه ( رفع ) ذلك ( إلى الوالي فإن عجز ) عنه ( أنكره بقلبه ) . ( وليس له ) أي لكل من الآمر والناهي ( التجسس ) والبحث ( واقتحام الدور بالظنون ) بل إن رأى شيئا غيره ( فإن أخبره ثقة بمن استسر ) أي اختفى ( بمنكر فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها كالزنا والقتل ) بأن أخبره أن رجلا خلا بامرأة ليزني بها أو بشخص ليقتله ( اقتحم له الدار ) وتجسس وجوبا فتعبيره بذلك أولى من تعبير أصله نقلا عن الماوردي بالجواز ( وإلا ) بأن لم يكن فيه انتهاك حرمة ( فلا ) اقتحام ولا تجسس كما مر . اهـ
والله أعلم.