الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن ما ورد من كلام هذا الرجل يدل على أنه شخص مفتون حقا وإن من أشد المصائب أن تأتي الفتنة من القائم على القسم الديني، والذي ينتظر منه أن يكون من الدعاة إلى الله على بصيرة، فإذا به حبل من حبالة الشيطان وعون من أعوانه الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذي آمنوا!! وهنا يحسن بنا أن نورد طرفا من خطبة عباد بن عباد الشامي التي رواها الدارمي بإسناده عنه، حيث قال: أما بعد: اعقلوا والعقل نعمة، فرب ذي عقل قد شغل قلبه بالتعمق عما هو عليه ضرر عن الانتفاع بما يحتاج إليه، حتى صار عن ذلك ساهيا، ومن فضل عقل المرء ترك النظر فيما لا نظر فيه حتى لا يكون فضل عقله وبالا عليه في ترك منافسة من هو دونه في الأعمال الصالحة، أو رجل شغل قلبه ببدعة قلد فيها دينه رجالا دون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اكتفى برأيه فيما لا يرى الهدى إلا فيها، ولا يرى الضلالة إلا بتركها، يزعم أنه أخذها من القرآن وهو يدعو إلى فراق القرآن، أفما كان للقرآن حملة قبله وقبل أصحابه يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه وكانوا منه على منار كوضح الطريق، فكان القرآن إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله إماما لأصحابه، وكان أصحابه أئمة لمن بعدهم ... ثم يأتي زمان يشتبه فيه الحق والباطل ويكون المعروف فيه منكرا والمنكر فيه معروفا فكم من متقرب إلى الله بما يباعده ومتحبب إليه بما يغضبه عليه، قال الله تعالى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ـ فعليكم بالوقوف عند الشبهات حتى يبرز لكم واضح الحق بالبينة، فإن الداخل فيما لا يعلم بغير علم آثم ... وقد ذكر عن عمر أنه قال لزياد: هل تدري ما يهدم الإسلام؟ زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون. اهـ.
ثم إن التعامل مع موضوع السؤال يحتاج إلى علم بطبيعة البشر وما جبلوا عليه من محبة الشهوات، وعلم بطبيعة الشيطان وأنه لا يصل إلى مبتغاه دفعة واحدة وإنما هي خطوات، وإلى المحور الأول أشار قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ { آل عمران: 14}.
وقوله سبحانه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا {الكهف: 7}.
وإلى المحور الثاني أشار قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ {النور: 21}. بعد قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النور: 19}.
ولذلك نجد أن القرآن لا ينهى عن الفواحش وإنما ينهى عن قربانها، كما قال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ { الأنعام: 151}.
قال السعدي: النهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها. اهـ.
وقال في ظلال القرآن: تخصيص الفواحش هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق، وصيغة الجمع، لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثله، فالتبرج، والتهتك، والاختلاط المثير، والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة، والإغراء والتزيين والاستثارة ... كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة، وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن، منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح، منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف! وكلها مما يحطم قوام الأسرة، وينخر في جسم الجماعة، فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد، ويحقر من اهتماماتهم، ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد، ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية، كان التعبير: وَلا تَقْرَبُوا .. للنهي عن مجرد الاقتراب، سداً للذرائع، واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة.. لذلك حرمت النظرة الثانية ـ بعد الأولى غير المتعمدة ـ ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة ولذلك كان التبرج ـ حتى بالتعطر في الطريق ـ حراماً، وكانت الحركات المثيرة، والضحكات المثيرة، والإشارات المثيرة، ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة.. فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود ويوقع العقوبات، وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح، وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير .. وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين، وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة، من يزينون للناس الشهوات، ومن يطلقون الغرائز من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام. اهـ.
وقال في قوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا {الإسراء: 32} القرآن يحذر من مجرد مقاربة الزنا، وهي مبالغة في التحرز، لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة، فالتحرز من المقاربة أضمن، فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضما، ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة، توقيا للوقوع فيه.. يكره الاختلاط في غير ضرورة، ويحرم الخلو، وينهى عن التبرج بالزينة، ويحض على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع، ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور، وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد، ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم، ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع، وعلى رمي المحصنات الغافلات دون برهان ... إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج، ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال. اهـ.
وبهذا يعلم أن الشريعة لم تسكت عن مثل هذه الأمور حتى تدخل في دائرة العفو: وما سكت عنه فهو عفو!! وقد سبق لنا بيان التحذير النبوي البليغ من فتنة النساء في الفتوى رقم: 35047.
وأما مسألة منع الوسائل التي تؤدي إلى المحرمات، فننبه ابتداء على أن الخضوع بالقول والإثارة بالكلام ممنوعة ولو كانت عن بعد، كما أن النظر إلى الصور الماجنة ممنوعة وإن كانت ليست بحقيقة، فهذه الأمور ونحوها ممنوعة لذاتها ولغيرها في آن واحد، فهي بذاتها منهي عنها، وفي الوقت نفسه تؤدي إلى ما هو شر منها وأقبح، فالكلمة الحرام والنظرة الحرام والاختلاط المريب والمصافحة ونحو ذلك مما قد يقع بين الرجل والمرأة، أمور محرمة لذاتها، وفي الوقت نفسه لما قد تؤدي إليه من محرمات أخرى، ومثال ذلك تحريم البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة فهو تحريم وسائل لا تحريم مقاصد، لأنه ذريعة للتشاغل عن حضور الذكر من الخطبة والصلاة، وهذا لا ينفي ثبوت النص في النهي عن ذلك، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ {الجمعة:9}.
ومما يمكن إيراده في منع مثل هذه الملاطفات المزعومة وإن كانت عن بعد، قصة نصر بن حجاج المشهورة مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: أخرج ابن سعد والخرائطيّ بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن بريدة، قال: بينما عمر بن الخطاب يعسّ ذات ليلة في خلافته فإذا امرأة تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أو من سبيل إلى نصر بن حجّاج ـ فلما أصبح سأل عنه فأرسل إليه، فإذا هو من أحسن الناس شعرا وأصبحهم وجها، فأمره عمر أن يطمّ شعره، ففعل، فخرجت جبهته فازداد حسنا، فأمره أن يعتمّ فازداد حسنا، فقال عمر: لا والّذي نفسي بيده لا تجامعني ببلد، فأمر له بما يصلحه وصيّره، إلى البصرة. اهـ.
وقد سبقت لنا فتوى في بيان قاعدة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، وهي برقم: 50387.
وعلى افتراض أن مثل هذه المحادثات بين رجل وامرأة لن يكون فيها شيء محظور لذاته، بل ستقتصر على النصح والإرشاد والحوارات العامة المباحة، فهي تدخل تحت قاعدة أخرى، وهي قاعدة سد الذرائع، والذرائع هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور، ومعنى سد الذريعة: حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها إذا كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى مفسدة، كما جاء في الموسوعة الفقهية: فالشريعة الغراء قد سدت باب الذرائع المفضية إلى الحرام فحرمتها ونهت عنها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء, لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم, ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة, ولهذا قيل: الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم. اهـ.
وراجعي الفتوى رقم: 34193.
وأما قوله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ {الأحزاب: 32}.
فقد سبق لنا بيان أن نساء الأمة تبع لنساء النبي صلى الله عليه وسلم في الأخذ به وبغيره من الآداب المذكورة في سورة الأحزاب، فراجعي الفتوى رقم: 78533.
وأما الاستدلال بحكم التابعين غير أولي الإربة من الرجال، فهو عجيب، لأنه من ناحية: في حكم الاطلاع على زينة النساء، لا في حكم ملاطفتهن ومخاطبتهن بكلمات العشق والغرام، ومن ناحية أخرى فإن مفهومه واضح الدلالة على أن غيرهم من الرجال لهم حكم مختلف!! ثم إن الحديث الذي ذكره في الرجل الذي كانوا يعدونه من غير أولي الإِربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال صلى الله عليه وسلم :ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلَنَّ عليكن هذا ـ وفي هذا مثال واضح لما طلبته السائلة من منع الوسائل التي تؤدي للحرام، فهذا الرجل وإن كان لا يخشى منه أو عليه الفتنة، إلا إنه لما تبين أنه وسيلة لوقوع غيره فيها مُنع من الدخول على النساء.
وأما حديث سهل بن سعد في قصة عرس أبي أسيد، فليس فيه هذه الملاطفة المحذورة، إنما فيه إكرام المرأة لأضياف زوجها بخدمتهم بنفسها، دون التلبس بأي سبب للفتنة، وأين هذا من تبادل كلمات الحب والعشق بين الرجال والنساء؟ قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: في الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة ومراعاة ما يجب عليها من الستر. اهـ.
وقد أيضا قال النووي في شرح مسلم: هذا محمول على أنه كان قبل الحجاب.
وأما معنى الخضوع بالقول، وهل يدخل فيه ملاطفة أحد الجنسين للآخر؟ فراجعي فيه الفتوى رقم: 176547.
وهناك أحكام تفصيلية تزيد الأمر وضوحا، وتبطل ما يزعمه هذا المفتون من جواز كل شيء بين الرجل والمرأة إلا الزنا، كحكم المصافحة وحكم الاختلاط المريب من غير حاجة، وراجعي في ذلك الفتويين رقم: 170629، ورقم: 118479.
وراجعي لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 76975.
والله أعلم.