الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله عز وجل حكيم، لا يأمر ولا يخلق إلا لحكم عظيمة جليلة، وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، قال ابن تيمية: فالذي عليه جمهور المسلمين من السلف والخلف أن الله تعالى يخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقه والعلم وهو الذي يدل عليه الكتاب، والسنة، والمعقول الصريح، وبه يثبت أن الله حكيم، فإنه من لم يفعل شيئًا لحكمة لم يكن حكيمًا. اهـ بتصرف.
وقال: فإن العمل الذي لا مصلحة للعبد فيه لا يأمر الله به، وهذا بناء على قول السلف: إن الله لم يخلق، ولم يأمر إلا لحكمة كما لم يخلق ولم يأمر إلا لسبب، والذين ينكرون الأسباب والحكم يقولون: بل يأمر بما لا منفعة فيه للعباد ألبتة، وإن أطاعوه وفعلوا ما أمرهم به، كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، والمقصود أن كل ما أمر الله به أمر به لحكمة، وما نهى عنه نهى لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقهاء قاطبة، وسلف الأمة وأئمتها وعامتها، فالتعبد المحض بحيث لا يكون فيه حكمة لم يقع. اهـ.
لكن ليس معنى ذلك أن العبد يتلكأ عن الامتثال حتى يعلم الحكمة، بل العبد عليه أن يمثل أوامر الله عز وجل، وإن جهل الحكمة منها، قال ابن أبي العز الحنفي: اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها، وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك، كما في الإنجيل: يا بني إسرائيل، لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا، ولهذا كان سلف هذه الأمة، التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلومًا، لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه، والمبادرة به القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأمورًا، بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله وإلا عطله، فإن هذا ينافي الانقياد، ويقدح في الامتثال. اهـ.
وليست الحكمة في الأحكام مقصورة في المنافع الدنيوية العاجلة، بل أعظم الحكم هي ما في الأوامر من صلاح القلب، وخضوعه لله، ومن الخلل حصر حكمة الأوامر الشرعية على المصالح الدنيوية، أو جعلها هي الحكمة العظمى، قال ابن تيمية: فتجد كثيرًا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال، والبدن، وغاية كثير منهم إذا تعدى ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس، وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من العلم، وقوم من الخائضين في أصول الفقه، وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد، ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان: أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس، وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء، والأموال، والفروج، والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، وأحوال القلوب، وأعمالها، كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة.اهـ باختصار.
وأما جعل الحكمة من الصلاة ما نقلته بقولك: قد علمت أن الصلاة حكمتها تفريغ الشحنات الكهربائية من الجسم إلى الأرض وكذلك تحريك مفاصل الجسم ـ فهذا أمر لم يرد عليه دليل في الشرع، فضلًا عن افتقاره لثبوته واقعًا، وإلا فالحكم من شرعية الصلاة ظاهرة جلية لكل مؤمن، وهو ما فيها من ذكر الله، كما في قوله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي {طه:14}.
ومن القرب من الله؛ لقوله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ {العلق:19}.
والنهي عن الفحشاء والمنكر؛ لقوله سبحانه: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ {العنكبوت:45}.
إلى نحو ذلك من الحكم التي جاءت بها الأدلة.
وأما بخصوص التشبه بالنساء: فقد جاءت النصوص بالزجر عنه، قل الهيتمي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر: الكبيرة السابعة بعد المائة: تشبه الرجال بالنساء فيما يختصصن به عرفًا غالبًا من لباس، أو كلام، أو حركة، أو نحوها، وعكسه، أخرج البخاري، والأربعة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. اهـ.
ويتبين من كلامه أنه ليس كل موافقة من الرجال للنساء محرمة، وإنما المحرم: هو التشبه المقصود فيما هو من خصائص النساء، وفي فتح الباري: قال الطبري: المعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس، والزينة التي تختص بالنساء، والعكس، قلت: وكذا في الكلام، والمشي، فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد، فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللبس، لكن يمتاز النساء بالاحتجاب، والاستتار، وأما ذم التشبه بالكلام، والمشي فمختص بمن تعمد ذلك، وأما من كان ذلك من أصل خلقته، فإنما يؤمر بتكلف تركه، والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم، ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به، وأخذ هذا واضح من لفظ المتشبهين. اهـ.
وأما عن الحكمة من النهي عن التشبه بالنساء: فقد تكلم في ذلك جمع من العلماء، قال ابن سعدي: ومن الحكمة في النهي عن التشبه: أن الله تعالى جعل للرجال على النساء درجة، وجعلهم قَوّامين على النساء، وميزهم بأمور قَدَرية، وأمور شرعية، فقيام هذا التمييز وثبوت فضيلة الرجال على النساء، مقصود شرعًا وعقلًا، فتشبُّه الرجال بالنساء يهبط بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وتشبه النساء بالرجال يبطل التمييز، وأيضًا، فتشبه الرجال بالنساء بالكلام، واللباس، ونحو ذلك: من أسباب التخنث، وسقوط الأخلاق، ورغبة المتشبه بالنساء في الاختلاط بهن، الذي يخشى منه المحذور، وكذلك بالعكس، وهذه المعاني الشرعية، وحفظ مراتب الرجال ومراتب النساء، وتنزيل كل منهم منزلته التي أنزله الله بها مستحسن عقلاً، كما أنه مستحسن شرعًا، وإذا أردت أن تعرف ضرر التشبه التام، وعدم اعتبار المنازل، فانظر في هذا العصر إلى الاختلاط الساقط الذي ذهبت معه الغيرة الدينية، والمروءة الإنسانية، والأخلاق الحميدة، وحَلَّ محله ضد ذلك من كل خلق رذيل. اهـ من بهجة قلوب الأبرار.
وقال ابن أبي جمرة: والحكمة في لعن من تشبه إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء، وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله: المغيرات خلق الله. اهـ.
والظاهر أنك تعاني من الغلو، وفرط الوسوسة في باب التشبه، فننصحك بالعمل بالضابط السابق، وعدم الاسترسال في الوساوس.
هذا، وقد أسأت إذ تركت الذهاب إلى المسجد استجابة لهذه الوساوس، فعليك التوبة، ومعاودة صلاة الجماعة في المسجد، كما أن ترك العمل، والوظيفة بسبب الوسوسة من آثارها المقيتة التي تفسد على الشخص دينه ودنياه, فارجع إلى وظيفتك، وأعرض عن الوساوس أولى لك.
والله أعلم.