الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تهافت شبهات مَن رد كلام الأئمة الأعلام عن العبادة

السؤال

بالنسبة لتعريف العبادة التي خلقنا الله من أجلها: بحثت كثيرًا عن معناها، فوجدت اجتهادات كثيرة من العلماء ملخصها: بأنها جميع الأقوال والأفعال والأحوال التي يرضاها الله، وبرأيي هذا الاجتهاد ليس صائبًا؛ لأنه لا يقوم على أي دليل شرعي، وإنما هو نابع من المعنى اللغوي لكلمة عبد وعبادة، في حين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار وبوضوح إلى معنى العبادة فقال: "الدعاء هو العبادة، أما سمعتم قول الله: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم...؟ أليس من الأولى أن نعرف العبادة بما عرفها به من هو أعلم بكلام الله منا؟ أليس النبي هو الذي يشرح مفردات القرآن، ويقيد مطلقه، ويبين مشكله؟ لماذا ننساق إلى اجتهادات لا تقوم على أي دليل من الكتاب أو السنة؟
أما بالنسبة لباقي الأوامر والفروض التي شرعها الله من صلاة وصيام وحج: فهي تدخل تحت مسمى آخر غير العبادة، وهي: أوامر الله، ولا توجد أي آية تنص على أن هذه الأوامر هي تندرج تحت مسمى العبادة؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما ندري لماذا هذه الجرأة على كلام الأئمة؟! كأن القوم كانوا يعبثون، ويتكلمون في دين الله بلا معرفة! ولماذا يحسن العبد الظن بنفسه، ويسيء ظنه بعلماء المسلمين، وأنهم تكلموا بلا دليل، وأنه قد خُصَّ بالإصابة دون غيره.

جاء في مجموع الفتاوى: ومن آتاه الله علما وإيمانا؛ علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل، ومن كان له خبرة بالنظريات، والعقليات، وبالعمليات، علم أن مذهب الصحابة دائما أرجح من قول من بعدهم، وأنه لا يبتدع أحد قولا في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سبق إليه من قبله. انتهى.

ثم إنه ليس في الحديث المذكور تعريف العبادة، وإلا لكان بلفظ: العبادة هي الدعاء، وإنما هو إشارة إلى أهمية الدعاء باستعمال أسلوب القصر، كما بينا لك في الفتوى: 273850.

وما ذكرته من أنه لا دليل لما ذكروه غير اللغة حجة عليك، فالشرع قد يُبقي الكلمة على معناها اللغوي، وقد يزيد فيها قيودًا؛ قال ابن تيمية في كتاب الإيمان: وبسبب الكلام في " مسألة الإيمان " تنازع الناس هل في اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع عن مسماها في اللغة، أو أنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة لكن الشارع زاد في أحكامها لا في معنى الأسماء؟ وهكذا قالوا في اسم: " الصلاة " و " الزكاة " و " الصيام " " والحج " إنها باقية في كلام الشارع على معناها اللغوي، لكن زاد في أحكامها....والتحقيق: أن الشارع لم ينقلها، ولم يغيرها, ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة, كما يستعمل نظائرها, كقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} فذكر حجا خاصا، وهو: حج البيت. انتهى.

ثم إن أوامر الله هي عبادة، فكيف ادعيت الفرق بينهما؛ وقد قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] فاستنبط العلماء الارتباط بين الآية، والحديث؛ قال القاري في المرقاة: "قيل: استدل بالآية على أن الدعاء عبادة؛ لأنه مأمور به، والمأمور به عبادة.

وقال القاضي: استشهد بالآية لدلالتها على أن المقصود يترتب عليه ترتيب الجزاء على الشرط، والمسبب على السبب، ويكون أتم العبادات، ويقرب من هذا قوله: "مخ العبادة" أي: خالصها. وقال الراغب: العبودية: إظهار التذلل، ولا عبادة أفضل منه؛ لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو: الله تعالى.

وقال الطيبي -رحمه الله-: يمكن أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي، وهو: غاية التذلل, والافتقار, والاستكانة، وما شرعت العبادة إلا للخضوع للبارئ، وإظهار الافتقار إليه، وينصر هذا التأويل ما بعد الآية المتلوة: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] حيث عبر عن عدم الافتقار والتذلل بالاستكبار، ووضع عبادتي موضع دعائي، وجعل جزاء ذلك الاستكبار الهوان والصغار.

وقال ميرك: أتى بضمير الفصل والخبر المعرف باللام، ليدل على الحصر في أن العبادة ليست غير الدعاء مبالغة، ومعناه: أن الدعاء معظم العبادة، كما قال: - صلى الله عليه وسلم - " «الحج عرفة» " أي: معظم أركان الحج الوقوف بعرفة، أو المعنى: أن الدعاء هو العبادة، سواء استجيب أو لم يستجب؛ لأنه إظهار العبد العجز, والاحتياج من نفسه، والاعتراف بأن الله تعالى قادر على إجابته، كريم لا بخل له ولا فقر، ولا احتياج له إلى شيء حتى يدخر لنفسه, ويمنعه عن عباده، وهذه الأشياء هي العبادة بل مخها، وأغرب ابن حجر حيث قال: وقال شارح: العبادة ليست غير الدعاء مقلوب، وصوابه: أن الدعاء ليس غير العبادة. اهـ. وهو خطأ منه، والصواب الأول؛ لأنه الدال على المبالغة بطريق الحصر المطلوبة المستفادة من ضمير الفصل، وإتيان الخبر المعرف باللام كما هو مقرر في علم المعاني والبيان. انتهى.

وقولك: "ولا توجد أي آية تنص على أن هذه الأوامر هي تندرج تحت مسمى العبادة" عجيب؛ فإن من بدائه العقول، أن من أخص صفات العبد كونه يسمع أمر سيده، فالصحابي إذا سمع هذه الكلمة في القرآن أو السنة انطلق ذهنه تلقائيًّا إلى هذا المعنى، إلا أن يجيء دليل بخلافه.

وجيد منك أن تعتني بالأدلة، لكن لا بد لك من فهم السلف للنصوص، ففيه الهداية؛ قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137].

قال ابن رجب -رحمه الله- في جامعه: قال أحمد بن شبويه: من أراد علم القبر فعليه بالآثار، ومن أراد علم الخبز فعليه بالرأي. ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه، تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبا، لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولا بد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم، كالشافعي, وأحمد, وإسحاق, وأبي عبيد, ومن سلك مسلكهم، فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم، وقع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به، وترك ما يجب العمل به. وملاك الأمر كله أن يقصد بذلك وجه الله، والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله، وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه، ومن كان كذلك وفقه الله وسدده، وألهمه رشده، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، ومن الراسخين في العلم. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني