السؤال
في إحدى فتاوى حضراتكم، ذكرتم أنه لا يجوز استعمال الأسطوانات التعليمية المشتملة على الموسيقى.
وعلى الجانب الآخر، قرأتُ على موقع "الإسلام سؤال وجواب"، [في معرض الحديث عن الكتب التعليمية التي تحتوي على صور]، ما معناه أنه يُغتفر في التابع ما لا يُغتفر في المتبوع، وأنه يجوز استعمال هذه الكتب؛ لأن الصور ليست مقصودة لذاتها.
وسؤالي هو:
أولاً: لماذا لم تطبقوا قاعدة: (يُغتفر في التابع، ما لا يُغتفر في المتبوع) على الأسطوانات التعليمية المشتملة على الموسيقى، ولا سيما أن الموسيقى ليست مقصودة لذاتها؟!
ثانيًا، كنتُ قد درستُ ثلاث لغات: (الإنجليزية والفرنسية والألمانية) في كبريات الأماكن المتخصصة في تدريس هذه اللغات. وجميع الكتب والأسطوانات التي كانت مقررة علينا، كانت تحتوي على صور، وكان يدخل فيها بعض الموسيقى، ولكنها ليست مقصودة لذاتها.
فهل العلم الذي تعلمتُه في هذه المراكز التعليمية، أصبحت فيه شبهة، بسبب الكتب والأسطوانات المذكورة؟!
وما حكم الدورات التي أنتوي الالتحاق بها فيما بعد، إذا كانت جميع الكتب والأسطوانات المقررة تحتوي على صور، ويدخل فيها الفيديو والموسيقى، ولكن الصور والموسيقى هنا ليست مقصودة لذاتها؟! فهل يسعني هنا الأخذ بقاعدة: "يُغتفر في التابع، ما لا يُغتفر في المتبوع" ولا سيما أن هناك حاجة للالتحاق بمثل هذه المراكز التعليمية، نظرًا لأن شهادتها معترف بها، فضلاً عن أن الغرض من الدراسة فيها هو الوصول إلى مستوى الاحتراف، وهو ما سيعود عليَّ بالنفع في عملي، لا مجرد المعرفة اللغوية البسيطة التي يمكن الحصول عليها من مصادر أخرى، ناهيك عن أن جلَّ الكتب والأسطوانات التعليمية في وقتنا الحاضر، لا تخلو من الأمور سالفة الذكر، وهو مما عمَّت به البلوى.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحكم بحرمة استعمال الأسطوانات التعليمية المشتملة على موسيقى، إنما هو باعتبار أصل حكم الموسيقى من ناحية، وباعتبار كون الوسائل التعليمية لا تنحصر في مثل هذه الأسطوانات، من ناحية أخرى.
وبالتالي، فلا داعي للترخص؛ لانتفاء الضرورة والحاجة الملحة إلى ذلك. وانظر الفتويين: 363748، 116578.
وأما إذا وجدت الحاجة، فإن الرخصة حينئذ تُنزَّل على محلها دون غيره، مما لا يحتاج إليها، كما في الفتوى رقم: 310342، والفتوى رقم: 281398. فراجعهما للأهمية.
وهذا القدر لا خلاف فيه بين موقعنا، وبين موقع "الإسلام سؤال وجواب" ففي فتواهم عن (حكم مشاهدة محاضرات طبية مصحوبة بالموسيقى) صدَّروها ببيان حرمة الموسيقى، وأنه لا فرق في تحريمها بين أن تكون في أغنية، أو أثناء نشرة أخبار، أو مع برنامج وثائقي أو غيره، فحكمها في كل الأحوال واحد، وهو تحريم سماعها! ثم ختموها بقولهم: (فإذا أمكن الاستغناء عن هذه الفائدة الطبية، أو الحصول عليها غير مصحوبة بالموسيقى، فلا يجوز استماع تلك الموسيقى. إذا لم يمكن الحصول على تلك الفائدة إلا بهذه الطريقة، وكانت مما يحتاج إليها الطبيب، فقد يرخص في ذلك؛ لأن استماع الموسيقى هنا غير مقصود، وهو تبع لغيره) انتهى.
فأنت ترى أن الرخصة إنما تذكر في محلها، ولا يعمم حكمها لتصبح هي الأصل. وكذلك الحال في فتواهم عن (حكم بيع كتب الطب المشتملة على صور) فهي مبنية على أن استعمال الصور في تعليم الطب لا حرج فيه؛ لوجود الحاجة إليه، وبالتالي فلا حرج في بيعها، ومع ذلك نصوا على أن: (المحظور هو بيعها على غير الدارس، ممن يشتريها لأجل الصور). انتهى.
والمقصود أن إعمال قاعدة: (يُغتفر في التابع، ما لا يُغتفر في المتبوع) أو (يغتفر في التوابع، ما لا يغتفر في غيرها) يكون في محله دون تعميم؛ لأن هذه القاعدة فرع للقاعدة الكلية: (التابع تابع) فهذا هو الأصل، ويتفرع عنه قواعد فرعية.
قال السيوطي في (الأشباه والنظائر): القاعدة الرابعة -يعني من القواعد الكلية، يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية-: (التابع تابع)، يدخل في هذه العبارة قواعد:
الأولى: أنه لا يفرد بالحكم؛ لأنه إنما جعل تبعا ...
الثانية: التابع يسقط بسقوط المتبوع ..
القاعدة الثالثة: التابع لا يتقدم على المتبوع ..
القاعدة الرابعة: يغتفر في التوابع، ما لا يغتفر في غيرها .. اهـ.
وعلى ذلك؛ فإن كان المرء في حاجة حقيقية لمجال معين من التعليم المباح في ذاته، ولم يجد له من الوسائل التعليمية إلا ما يشتمل على الموسيقى، فهذا يُرخَّص له بحسب حاله. بخلاف من لا يحتاج إلى هذا المجال المعين، أو يحتاجه، ويجد له وسائل تعليمية خالية من المحاذير الشرعية -الموسيقى أو غيرها- وفي هذا القدر بيان للأصل الذي يدور عليه سؤال السائل.
وأما السؤال عن العلم الذي تعلمه في هذه المراكز التعليمية، وهل أصبح فيه شبهة بسبب الكتب والأسطوانات المذكورة؟!
فالجواب: أن الأمر ليس كذلك!! فالمنكر ليس ذات العلم (سواء اللغات أو غيرها)، وإنما هو محظور شرعي اقترن بوسيلة تحصيله، ولا يخفى أن هذا المحظور لا أثر له، ولا بقاء له، ليكون شبهة في العلم ذاته. وأوضح من ذلك مثالا: من توضأ وهو يسمع المعازف، هل يحكم ببطلان وضوئه لأجل ذلك؟!! بالطبع لا، فالجهة منفكة، فالوضوء شيء، وسماع المعازف شيء آخر. وهذا قريب من المثال الذي يذكره الفقهاء، وهو الوضوء بالماء المسخن بمغصوب، فهو مُجزئ حتى على مذهب الحنابلة الذين يقولون ببطلان الوضوء بالماء المغصوب. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 109465.
والله أعلم.