السؤال
لي صديق عزيز ينكر حديث: ألحقوا الفرائض بأهلها .... بحجة مخالفته للقرآن، حسب فهمه السقيم. ويرى شمول الذكر في قوله تعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك. لذلك فهو يرى أن أمر العصبة مخالف للقرآن، لا شيء له حتى في مسألة وجود ولد أنثى فقط بدون الذكور. ويعتمد فيه على شمول كلمة الولد للذكر والأنثى، ويستدل بقوله: ولأبويه لكل واحد منهما السدس إن كان له ولد.
فما هو جوابكم؟
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا لله وإنا إليه راجعون! فهذه المسألة ليست من مواطن الخلاف، وليست محل نظر ولا اجتهاد. كما أن حديث: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر. متفق على صحته، ومجمع على حكمه، ومتسق مع نصوص الكتاب، ومعمول بدلالته دون ارتياب، على مر عصور المسلمين، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى وقت الناس هذا!!
ومن له أدنى معرفة بعلم الفرائض خصوصا، وبفقه الشريعة عموما، لا يتمارى في ذلك. وقد توارد أهل العلم على نقل الإجماع في هذه المسألة.
قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: أجمعوا أن ما فضل من المال عن أصحاب الفرائض، فهو للعصبة، وأن من لا سهم له في كتاب الله من ذوي الأرحام، لا ميراث له مع العصبة. اهـ.
وكذا قال ابن الملقن في التوضيح.
وقال النووي في شرح مسلم: قد أجمع المسلمون على أن ما بقي بعد الفروض فهو للعصبات، يقدم الأقرب فالأقرب، فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب، فإذا خلف بنتا وأخا وعما، فللبنت النصف فرضا، والباقي للأخ، ولا شيء للعم. اهـ.
وقال ابن القطان الفاسي في الإقناع في مسائل الإجماع: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، وما بقي فلأولى رجل ذكر»، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل المال للعصبة. وأجمع أهل العلم على القول به. اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره: أجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين، لقوله عليه السلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها) رواه الأئمة. يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى. اهـ.
وقال سِبْط المارِديني في شرح الفصول المهمة في مواريث الأمة: حكمُ العاصبِ بنفسه: أن يأخذ جميعَ التركة عند انفراده عن أصحاب الفروض، أو يأخذ ما أبقتِ الفروضُ إجماعاً؛ لقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}. وقوله عليه الصلاة والسلام: ألحقوا الفرائضَ بأهلها، فما أبقتْ فلأولى رجلٍ ذَكَر. اهـ.
وقال السرخسي في المبسوط: اعلم أن الابن الواحد يحرز جميع المال، ثبت ذلك بإشارة النص، فإن الله تعالى قال: {للذكر مثل حظ الأنثيين}، ثم جعل للبنت الواحدة النصف بقوله تعالى: {وإن كانت واحدة فلها النصف}. وثبت أن للذكر ضعف هذا، وضعف النصف الجميع. وثبت ذلك استدلالا بآية الإخوة؛ فإن الله تعالى قال: {وهو يرثها إن لم يكن لها ولد}، أي يرثها جميع المال. وإذا ثبت بالنص أن للأخ جميع المال، ثبت للابن بدلالة النص؛ لأن الأخ ولد أبيها، وولدها أقرب إليها من ولد أبيها، والميراث ينبني على الأقرب. قال الله تعالى: {مما ترك الوالدان والأقربون}، وزيادة القرب تدل على قوة الاستحقاق، إلا أن الله تعالى لم ينص على جميع المال للبنين؛ لأن ذلك كان معروفا فيما بين العرب، فقد كانوا في الجاهلية لا يورثون إلا البنين. اهـ.
وفي كلام السرخسي عدة فوائد مهمة، منها: بيان الحكمة في عدم نص الآية على ميراث الذكر إذا انفرد، لجميع الإرث تعصيبا، والتنبيه على إشارة النص القرآني لمسألة الإرث بالتعصيب، فالآية نصت على أن ميراث البنت الواحدة هو النصف، ولم تنص على ميراث الذكر الواحد، فإنه يرث بالتعصيب، فيأخذ باقي المال كله بعد أصحاب الفروض، كما نص عليه الحديث الشريف الذي ينكره صديق السائل.
وهذا في الفروع (الأولاد) وجاء نحوه في الأصول (الآباء) حيث يرث الأب بالتعصيب في حال عدم وجود الأولاد، بخلاف الأم؛ كما قال تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء: 11]. ومعناه أن الولد يأخذ الباقي بعد سدسي الوالدين. فإن لم يكن للمتوفى ولد وورثه أبواه، فلأبيه الباقي بعد ثلث الأم، أو سدسها في حال وجود الأخوة. وذلك أن المال المشترك إذا تبين فيه نصيب أحد الشريكين مع السكوت عن نصيب الآخر، كان السكوت بيانا بحق الآخر، أي: إن نصيبه من المال ما بقي. وهذا في الحقيقة إرث بالتعصيب، كما لا يخفى. ونحو ذلك دلالة قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء: 176] على حيازة الأخ إذا انفرد لجميع تركة أخته، في حين أن الأخت يكون فرضها النصف فقط. وهذا كله لا خلاف، ولا مجال للاجتهاد فيه. وبهذا يظهر الخطأ الواضح في مطالبة بعض الناس بإلغاء قاعدة التعصيب من نظام الإرث الشرعي، توصلا لتسوية الذكر بالإنثى: إما في النصيب الموروث، وإما في حجب العصبات بالأنثى كما تحجب بالذكر، وهذا باطل مخالف للنص والإجماع.
ومن العجب العجاب أن يدعي مدعٍ في قوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ {النساء:11}، إنه يشمل الذكور أيضا!!!
فهذا الجزء من الآية بنصه ولفظه الصريح، إنما يتناول نصيب الإناث خصوصا، وهذا معناه أنه لم يعصبهن ولد ذكر! ولا ندري كيف يقرأ من يفهم لغة العرب قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ {النساء:11}، ثم يريد أن يسوي بين الذكر والأنثى، سواء في النصيب المقدر، أو في الإرث بالتعصيب؟!!! ثم لا ندري ما علاقة ذلك بكون لفظ الولد يشمل الذكر والأنثى!
فهذا تدل عليه الآية بوضوح، ولكنها في الوقت نفسه تنص على الفرق بين ميراث الأولاد باعتبار الذكورة والأنوثة. ولا إشكال في هذا، كما أنه لا يعارض اتفاق الذكر والأنثى في حكم آخر نصت عليه الآية نفسها في سياق واحد، وهو تأثير وجود ولد -ذكرا كان أو أنثى- في إرث الوالدين. ومجرد تلاوة الآية كاف جدا في بيان ذلك غاية البيان، ولكنه الهوى -والعياذ بالله- ثم اتباع ثقافة دخيلة، والتبعية المطلقة للفكر الغربي، الذي ينادي بتسوية الذكر بالأنثى مطلقا.
أما الشريعة فتفرق بينهم في أمور، وتسوي بينهم في أمور، على ما يقتضيه العدل لا المساواة، فالمساواة إنما تكون عدلا إذا كانت بين شيئين متعادلين، أما التسوية بين شيئين مختلفين ومتفاوتين، فهذا هو الجور بعينه! وراجع في تفصيل ذلك الفتاوى: 138007، 137386، 257179.
والله أعلم.