السؤال
جزاكم الله خير الجزاء، على كل ما تقومون به.
أضطر في أيام كثيرة لمخالطة بعض الأشخاص بذيئي اللسان، وأضطر لمقابلتهم، لصلة للرحم، لأنهم أقاربي، وعندما أسمع منهم كلامًا مؤذيًا (بالرغم من مقدرتي التامة على الرد عليهم، ولكني أصمت، جبرًا لخاطر والدتي، فهي تحبهم، وتنزعج جدًا إن جادلتهم، أو جادلت أي أحد في أمر من أمور الدين، فهي تريدني أن أصلي، وأفعل الخير لنفسي فقط، ولا أنصح به أحدًا أبدًا، هي تحبني، ولكنها نشأت في بيئة ليس فيها حجاب، ولا صلاة، ولكن والدتي فيها الخير)، فعندما يبدأون بالحديث المؤذي معي، أقول: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، ولا أزيد عليها حرفًا، ولكني أخاف أن يكون ذلك تنقيصًا من شأنهم، ولكني والله لا أقصد إهانتهم، وأخشى أن يفهموها بهذه الطريقة، بسبب فارق المستوى التعليمي بيننا، وأنا والله لا أقصد إلا محاولتي في كف الأذى عنهم، فهم في كل مرة أقابلهم يردون علي بعبارات مثل: كل شخص دينه لنفسه، لا يخصك أحد، لا تزعجينا بمسابقاتك التافهة، لأني في بعض الجمعات أقوم بعمل بعض المسابقات الدينية، لنشر الفائدة بشكل ممتع، وعندما يكون هناك موسيقى، أقوم من المجلس، وأنتقل لمكان آخر، فيأتون يكررون هذا الكلام علي، مثل: هكذا يفعل الدين، يجعلكم معقدين، لا تخالطون الناس، ولا تفرحوا لفرحهم! فهل يجوز أن أخاطبهم بهذه الآية دائمًا؟ ويشهد الله إني لا أريد بها تنقيص شأنهم، إنما كف الأذى؛ وكيف أتعامل مع أمي عندما تطلب مني الذهاب معها لزيارتهم بكثرة، وتغضب بشدة عند رفضي، فأنا أريد مقابلتهم مرة واحدة في الأسبوع فقط، وصلا لرحمي؟ ولكم جزيل الشكر.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجزاك الله خيراً على حرصك على الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وما يصيبك من جراء ذلك فاصبري عليه واحتسبي الأجر من الله تعالى، قال تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان : 17].
قال ابن كثير –رحمه الله-: عَلِمَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ. اهـ.
وعليك بالرفق والحلم، فإنّه من آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: .. جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعاً، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: "لا يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه؛ حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه. انتهى.
وأمّا مخاطبتك لهؤلاء الأقارب بقوله تعالى: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، فليس من الحكمة، ولا من الحلم والرفق المطلوبين، فمقصود الآية مقابلة الجهل بالحلم، والسيئة بالحسنة، قال الطاهر ابن عاشور -رحمه الله- في التحرير والتنوير: .. ما أفصح عنه قولهم لا نبتغي الجاهلين من أن ذلك خلقهم أنهم يتطلبون العلم ومكارم الأخلاق. والجملة تعليل للمتاركة، أي لأنا لا نحب مخالطة أهل الجهالة بالله وبدين الحق، وأهل خلق الجهل الذي هو ضد الحلم، فاستعمل الجهل في معنييه المشترك فيها، ولعله تعريض بكنية أبي جهل الذي بذا عليهم بلسانه. والظاهر أن هذه الكلمة يقولونها بين أنفسهم، ولم يجهروا بها لأبي جهل وأصحابه، بقرينة قوله ويدرؤون بالحسنة السيئة، وقوله: سلام عليكم. انتهى.
وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: إذا سفه عليهم سفيه، وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه، أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح، ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب. انتهى.
واعلمي أنّ برّ أمّك، والإحسان إليها، من أوجب الواجبات، ومن أفضل الطاعات، فإذا أمرتك بمصاحبتها لزيارة هؤلاء الأقارب؛ فعليك طاعتها في ذلك، وإذا رأيت منكراً، فانهي عنه برفق وحكمة -ما لم يكن في الإنكار مفسدة أكبر- ولا تجادليهم، ولا تلتفتي لسخريتهم، قال السعدي -رحمه الله-: فإذا دعا المسلم إلى الله بعلم وحكمة وبيَّن وجه الصواب وأدى حق النصيحة، فلا يضره بعد ذلك رد كلامه والاستهزاء به والسخرية منه، وينبغي أن لا يخرجه جهل الجاهلين عن أدب الإسلام في الدعوة إلى الله تعالى، ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبداءة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين. انتهى.
وانظري ضوابط تغيير المنكر في الفتوى: 124424.
والله أعلم.