السؤال
هل يجوز لمن ارتكب معصية توجب الحد، أو قسما، مثل الملاعنة بين الزوجين. أن يكذب أمام الحاكم، ويقول: لم أرتكب معصية، حفظا لنفسه من الموت. من باب ارتكاب أخف الضررين، ودرء المفسدة الأعظم؟ أم إن هذا لا يدخل في أمور الحد والعقاب، ويجوز فقط في الأمور الأخرى؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما أيمان اللعان، فلا يشرع فيها الكذب؛ لما فيها من تعلق حق الغير، ولما فيها من حلول اللعنة والغضب على صاحبها، كما قال تعالى: وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ... وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور: 7 ، 9].
ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لاعن بين هلال بن أمية وبين امرأته، فشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل له: يا هلال اتق الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم قيل لها: اشهدي، فشهدت أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. رواه أبو داود.
ورواه البخاري بلفظ: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب. ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها، وقالوا:إنها موجبة .. الحديث.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم شدد عليهما في الكذب وحذر من عاقبة الأيمان. في حين أن ماعزا لما جاءه مقرا على نفسه بالزنا قال له: ويحك! ارجع فاستغفر الله، وتب إليه. رواه مسلم. فأصر ماعز وكرر إقراره، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمه، فلما رجم فوجد مس الحجارة فجزع فخرج يشتد فلم يتركوه، فلما ذُكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه» رواه أبو داود.
قال الخطابي في معالم السنن: في قوله "هلا تركتموه" دليل على أن الرجل إذا أقر بالزنا ورجع عنه، دفع عنه الحد، سواء وقع به الحد أو لم يقع. وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح والزهري وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأصحابه. وكذلك قال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ... وكذلك قال هؤلاء في شارب الخمر إذا قال: كذبت، فإنه يكف عنه. وكذلك السارق إذا قال: كذبت، لم تقطع يده، ولكن لا تسقط الغرامة عنه؛ لأنها حق الآدمي. اهـ.
والمقصود أن الحدود المتعلقة بحق الله تعالى كشرب الخمر والزنا، يُشرع لصاحبها أن ينكرها إذا سئل عنها، ويتوب فيما بينه وبين الله تعالى. وقد نص بعض أهل العلم على استحباب الكذب في ذلك؛ سترا على النفس، ولئلا تشيع الفواحش.
قال البغوي في «التهذيب»: لو أقر على نفسه بالزنى، أو شرب الخمر، ثم رجع عن إقراره: يسقط عنه الحد... وهل يستحب الرجوع؟ فيه وجهان: أحدهما: بلى، كما يستحب ألا يقر ابتداء.
والثاني: لا يستحب؛ لأن هتك الستر قد حصل؛ فلا يستحب له تكذيب نفسه. اهـ.
وذكر الغزالي في الإحياء، ما نص عليه من حِلِّ الكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وفيما يحدث به الرجل امرأته ليرضيها.
ثم قال: فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره. أما ماله فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله، فله أن ينكره. أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله -تعالى- ارتكبها، فله أن ينكر ذلك، فيقول: ما زنيت، وما سرقت. وقال صلى الله عليه وسلم: "من ارتكب شيئا من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله"، وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلما، وعرضه بلسانه وإن كان كاذبا. اهـ.
والله أعلم.