الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحكمة من خلق السموات والأرض وما بينهما

السؤال

عندما أتمعن في هذا الكون، وكم هو كبير بالنسبة للأرض. فيه مليارات المجرات، وكل مجرة تحتوي على مليارات النجوم، وأنا هنا أبدأ أتساءل. هل يعقل أن الكون بكل حجمه المهول هذا خُلق فقط لأجل اختبار الإنسان الذي لا يعد شيئا بالنسبة للكون؟
وأيضا هل يعقل أننا الأحياء الوحيدون الموجودون من بين كل الكواكب والمجرات الأخرى.
أرجوكم أجيبوني؛ لأن هذا السؤال يورث عندي الكثير من الشبهات. وأتمنى إجابة شافية، وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله أن يصلحك، ويرزقك اليقين.

وأما قولك: (هل يعقل أن الكون بكل حجمه المهول هذا خُلق فقط لأجل اختبار الإنسان الذي لا يعد شيئا بالنسبة للكون)؛ فإن الله قد أخبر في كتابه أنه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما عبثا، وأنه ما خلق ذلك إلا بالحق، قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ {الحجر:85}، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ {ص:27}، وقال تعالى: اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {الطلاق:12}.

فهناك حِكم عظيمة، وغايات جليلة لأجلها أوجد الله سبحانه هذا الكون، ومن أسمى تلك الحكم: أن يتعرف العباد بتلك المخلوقات على ربهم، ويعبدوه وحده لا شريك له، وظهور آثار أسمائه وصفاته.

قال ابن القيم في شفاء العليل: وقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} والحق هو الحكم والغايات المحمودة التي لأجلها خلق ذلك كله وهو أنواع كثيرة:

منها: أن يعرف الله تعالى بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وآياته.

ومنها: أن يُحب، ويُعبد، ويشكر، ويذكر، ويطاع.

ومنها: أن يأمر، وينهى، ويشرع الشرائع.

ومنها: أن يدبر الأمر، ويبرم القضاء، ويتصرف في المملكة بأنواع التصرفات.

ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فيوجد أثر عدله، وفضله موجودا مشهودا، فيُحمد على ذلك، ويُشكر.

ومنها: أن يعلم خلقه أنه لا إله غيره، ولا رب سواه.

ومنها، أن يصدق الصادق فيكرمه، ويكذب الكاذب فيهينه.

ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها، وكثرتها في الوجود الذهني والخارجي، فيعلم عباده ذلك علما مطابقا لما في الواقع.

ومنها: شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها، وفاطرها، ومليكها، وأنه وحده إلهها ومعبودها.

ومنها: ظهور أثر كماله المقدس، فإن الخلق والصنع لازم كماله، فإنه حي قدير، ومن كان ذلك كذلك لم يكن إلا فاعلا مختارا.

ومنها: أن يظهر أثر حكمته في المخلوقات بوضع كل منها في موضعه الذي يليق به، ومحبته على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه، فتشهد حكمته الباهرة.

ومنها: أنه سبحانه يحب أن يجود، وينعم، ويعفو، ويغفر، ويسامح، ولا بد من لوازم ذلك خلقا وشرعا.

ومنها: أنه يحب أن يثنى عليه، ويمدح، ويمجد، ويسبح، ويعظم.

ومنها: كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته.

إلى غير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق، فخلق مخلوقاته بسبب الحق ولأجل الحق وخلقها ملتبس بالحق وهو في نفسه حق، فمصدره حق، وغايته حق، وهو يتضمن للحق.

وقد أثنى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء، ولا لغاية، فقال تعالى: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} وأخبر أن هذا ظن أعدائه، لا ظن أوليائه فقال: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا} وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول أنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له، ولا أمر لحكمة، ولا نهى لحكمة، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة، وقدرة محضة، لا لحكمة، ولا لغاية مقصودة. وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده؟

بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات، فهما مظهران بحمده وحكمته، فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره .اهـ.

فليست الحكمة محصورة في اختبار الإنسان؛ كما ذكرتَ.

وأما قولك: (وأيضا هل يعقل أننا الأحياء الوحيدون الموجودون من بين كل الكواكب، والمجرات الأخرى): فإن وجود كائنات حية خارج الأرض لم يأت الشرع بثبوته، ولا بنفيه، فهو أمر ممكن، وقد نص طائفة من أهل العلم على هذا الإمكان، وانظر بيان هذا في الفتوى: 349720.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني