الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه قال: إن قوما عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وآخرون عبدوه رغبة، فتلك عبادة التجار، وآخرون عبدوه محبة وشكرا، فتلك عبادة الأحرار الأخيار. اهـ.
وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان" بسنده إلى الفضيل بن عياض قال: قال حكيم من الحكماء: إني لأستحيي من ربي أن أعبده رجاء للجنة فقط، فأكون مثل أجير السوء، إن أعطي عمل، وإن لم يعط لم يعمل، ولكن حبه يستخرج مني ما لا يستخرجه غيره.
وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان" بسنده إلي يحيى بن معاذ الواعظ أنه قال: كم بين من يريد الوليمة للوليمة وبين من يريد حضور الوليمة ليلتقي الحبيب في الوليمة. اهـ.
والصواب هو أن يجمع العبد بين المحبة والرغبة والرهبة، لأنه جمع بين ثلاث عبادات عظيمة، فكما أن المحبة عبادة فكذا الرغبة والرهبة، وقد امتدح الله تعالى من عبده بالعبادات الثلاث في نصوص شرعية كثيرة، فأما المحبة، فيقول الله تعالى: [وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ] (البقرة: 165).
وقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ] (المائدة: 54).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس المتفق عليه: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...
وأما العبادة بالرغبة والرهبة: فيقول الله تعالى عن نبيه زكريا: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (الأنبياء: 90).
ويقول الله تعالى: [ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ]. (الزمر: 9).
ولذا قال الغزالي رحمه الله في "الإحياء": أقصى غايات المؤمن أن يعتدل خوفه ورجاؤه، وغلبة الرجاء في غالب الناس تكون مستندة للاغترار وقلة المعرفة، ولذلك جمع الله تعالى بينهما في وصف من أثنى عليهم، فقال تعالى: [يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعا] (السجدة: 16).
وقال عز وجل: [وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَباً] (الأنبياء: 90). وأين مثل عمر رضي الله عنه؟! فالخلق الموجودة في هذا الزمان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف بشرط أن لا يخرجهم إلى اليأس وترك العمل وقطع الطمع من المغفرة، فيكون ذلك سببا للتكاسل عن العمل وداعيا إلى الانهماك في المعاصي، فإن ذلك قنوط وليس بخوف، إنما الخوف هو الذي يحث على العمل ويكدر جميع الشهوات ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور، فهو الخوف المحمود، دون حديث النفس الذي لا يؤثر في الكف والحث، ودون اليأس الموجب للقنوط.
وقد قال يحيى بن معاذ: من عبد الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار ومن عبده بمحض الرجاء تاه في مفازة الاغترار ومن عبده بالخوف والرجاء استقام في محجة الادكار.
وقال مكحول الدمشقي: من عبد الله بالخوف فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فهو مرجئ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد، فإذن لا بد من الجمع بين هذه الأمور، وغلبة الخوف هو الأصلح، ولكن قبل الإشراف على الموت، أما عند الموت، فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن، لأن الخوف جار مجرى السوط الباعث على العمل، وقد انقضى وقت العمل، فالمشرف على الموت لا يقدر على العمل، ثم لا يطيق أسباب الخوف، فإن ذلك يقطع نياط قلبه ويعين على تعجيل موته، وأما روح الرجاء، فإنه يقوى قلبه ويحبب إليه ربه الذي إليه رجاؤه، ولا ينبغي أن يفارق أحد الدنيا إلا محبا لله تعالى، ليكون محبا للقاء الله تعال، فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه، والرجاء تقارنه المحبة، فمن ارتجى كرمه فهو محبوب. اهـ.
والله أعلم.