قال وفيه قول آخر ، قال بعضهم : لو كان هؤلاء الأئمة تركوا الصلاة متعمدين لتركها إلى أن خرج وقتها ، لكانوا قد كفروا ، وليس في الأحاديث التي احتججتم بها دليل على أنهم لم يكفروا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر ذلك إنما ادعيتم في هذا الحديث ما ليس فيه ، وتأولتموه على غير تأويله . أبو عبد الله :
فإن قال قائل : أليس قال : " فصلوا معهم ، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة " ، فيأمر بالصلاة خلف كافر ؟ قيل له : لم يقل بالصلاة خلف كافر ، بل إنما أمر بالصلاة خلف مسلم ، لأنهم في حال صلاتهم مسلمون ، لا كفار ، لأن الرجل إذا كفر بترك الصلاة ، فإنما يستتاب من كفره بأن يدعى إلى الصلاة ، فإذا رجع إلى الصلاة ، فصلى ، كان راجعا إلى الإسلام ، لأن كفره كان بتركها ، فإسلامه يكون بإقامتها .
وكذلك كل من كان معروفا بالإسلام ، والإيمان بما جاء من عند الله تعالى من الفرائض ، والحلال ، والحرام ، ثم كفر بشريعة من الشرائع ، أو استحلال بعض ما حرم الله تعالى ، فإنما يستتاب من الكفر بالشريعة التي كفر بها ، فإذا أقر بها ، عاد إلى الإسلام ، ولا يمتحن بغير ذلك ، ولا يسأل عن سواه . [ ص: 965 ]
وكذلك إن قال : الخمر حلال ، أو لحم الخنزير ، وهو مقر بجميع ما أحل الله تعالى ، وحرم سوى الخمر ، أو الخنزير ، فإنما يستتاب من الباب الذي كفر منه ، من إحلاله الخمر ، والخنزير فقط ، لأنه مؤمن بما سوى ذلك . وهذا باب قد مر شرحه فيما مضى من الكتاب .
وكان ذلك من إظهار للإسلام ، فإن هو رجع بعد ذلك إلى الكفر ، استتيب ، فإن تاب ، وإلا قتل في قول جماعة من العلماء . ولو أن رجلا نشأ في الكفر ، فأتى عليه ثلاثون سنة يعرف بذلك ، ثم جاء إلى مسجد من مساجد المسلمين ، فأمر رجلا فأذن ، وأقام ، ثم تقدم ، فصلى بالناس جماعة طوعا من غير كره ، ولا تقية ، فصلوا بصلاته ، جازت صلاتهم ،
فالأمير الذي قد عرف بالإسلام ، ونشأ عليه ، إذا حضر الجمعة ، فأذن له بأمره ، ثم خطب الناس ، وافتتاح الخطبة إنما يكون بالتوحيد ، والشهادة للرسول بالرسالة ، ثم إذا هو أطال الخطبة ، واشتغل بقراءة الكتب حتى غابت الشمس ، ولم يصل متعمدا لترك الصلاة ، قاصدا لذلك ، وهو ذاكر للصلاة ، فقد كفر في قول هؤلاء الذين أكفروا بترك الصلاة [ ص: 966 ] على ما حكينا عنهم ، ثم إذا هو بعد غيبوبة الشمس أمر بإقامة الصلاة ، ثم نزل ، فصلى بالناس الجمعة ، أو الظهر ، والعصر ، والمغرب ، أولى وأحق بأن يكون ذلك منه رجوعا عن الكفر إلى الإسلام ، وصلاة الناس خلفه جائزة ، ومع ما ذكرناه ، فإن تعمده لترك الصلاة على ما وصفنا لا يعلمه منه إلا الله تعالى عز وجل ، ثم هو في نفسه ، فأما سائر الناس فلا يعلمونه ، لأن تأخيره الصلاة قد يحتمل أن يكون سهوا منه ، واشتغالا بما هو فيه على التأويل منه ، فإن ذلك جائز له ما دام في الوقت ، فيخرج الوقت وهو غير قاصد لتأخيرها إلى ذهاب الوقت ، فإذا كان فعلا محتملا لما ذكرنا ، فليس لأحد أن يثبت عليه الكفر بالشك .