الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأيضا ، فالممكنات فيها كمالات موجودة ، وهي من الواجب بنفسه ، والمبدع للكمال المعطي له الخالق له أحق بالكمال ؛ إذ الكمال إما وجود ، وإما كمال وجود ، ومن أبدع الموجود كان أحق بأن يكون موجودا ؛ إذ [ ص: 183 ] المعدوم لا يكون مؤثرا في الموجود [1] ، وهذا كله معلوم . فتبين أن الكمال ليس ممتنعا عليه ، وإذا كان جائزا أن يحصل وجائزا أن لا يحصل ، لم يكن حاصلا إلا بسبب آخر ، فيكون واجب الوجود مفتقرا في كماله إلى غيره ، وقد تبين بطلان هذا أيضا .

                  فتبين أن الكمال لازم لواجب الوجود واجب له يمتنع سلب الكمال عنه ، والكمال أمور وجودية ، فالأمور العدمية لا تكون كمالا إلا إذا تضمنت أمورا وجودية ، إذ العدم المحض ليس بشيء فضلا عن أن يكون كمالا ، فإن الله سبحانه إذا ذكر ما يذكره من تنزيهه ونفي النقائص عنه ، ذكر ذلك في سياق إثبات صفات الكمال له ، كقوله تعالى : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ) [ سورة البقرة : 255 ] فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيومية ، وهذه من صفات الكمال .

                  وكذلك قوله : لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) [ سورة سبأ : 3 ] ، فإن نفي عزوب ذلك عنه يتضمن علمه به ، وعلمه به من صفات الكمال .

                  وكذلك قوله : ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) [ سورة ق : 38 ] ، فتنزيهه لنفسه عن مس اللغوب يقتضي كمال قدرته ، والقدرة من صفات الكمال ، فتنزيهه يتضمن كمال حياته وقيامه وعلمه وقدرته ، وهكذا نظائر ذلك .

                  فالرب تعالى موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها ، إذ كل غاية تفرض كمالا إما أن تكون واجبة له أو ممكنة أو ممتنعة . والقسمان [ ص: 184 ] الأخيران [2] باطلان فوجب الأول ، فهو منزه عن النقص وعن مساواة شيء من الأشياء له في صفات الكمال ، بل هذه المساواة هي من النقص أيضا ، وذلك لأن المتماثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ، ويجب له ما يجب له ، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ، فلو قدر أنه ماثل شيئا في شيء من الأشياء ، للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع [ على ] [3] ذلك الشيء ، وكل ما سواه ممكن قابل للعدم ، بل معدوم مفتقر إلى فاعل وهو مصنوع مربوب محدث ، فلو ماثل غيره في شيء من الأشياء ، للزم أن يكون هو والشيء الذي ماثله فيه ممكنا قابلا للعدم ، بل معدوما مفتقرا إلى فاعل ، مصنوعا مربوبا محدثا ، وقد تبين أن كماله لازم لذاته لا يمكن أن يكون مفتقرا فيه إلى غيره ، فضلا عن أن يكون ممكنا أو مصنوعا أو محدثا ، فلو قدر مماثلة غيره له في شيء من الأشياء ، للزم كون الشيء الواحد موجودا معدوما ، ممكنا واجبا ، قديما محدثا ، وهذا جمع بين النقيضين .

                  فالرب تعالى مستحق للكمال على وجه التفصيل كما أخبرت به الرسل ، فإن الله [ تعالى ] [4] أخبر أنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه سميع بصير ، وأنه عليم قدير ، عزيز حكيم ، غفور رحيم ، ودود مجيد ، وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ، ويرضى عن [5] الذين [ ص: 185 ] آمنوا وعملوا الصالحات ، ولا يحب الفساد ، ولا يرضى لعباده الكفر ، وأنه خلق السماوات والأرض [ وما بينهما ] [6] في ستة أيام ثم استوى على العرش ، وأنه كلم موسى تكليما وناداه وناجاه ، إلى غير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة .

                  وقال في التنزيه : ( ليس كمثله شيء ) [ سورة الشورى : 11 ] ، ( هل تعلم له سميا ) [ سورة مريم : 65 ) ( فلا تضربوا لله الأمثال ) [ سورة النحل : 74 ] ، ( ولم يكن له كفوا أحد ) ، ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) [ سورة البقرة : 22 ] فنزه نفسه عن النظير باسم الكفء والمثل والند والسمي [7] .

                  وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع ، وكتبنا رسالة مفردة في قوله : ( ليس كمثله شيء ) ، وما فيها من الأسرار والمعاني الشريفة [8] .

                  فهذه طريقة الرسل وأتباعهم من سلف الأمة وأئمتها : إثبات مفصل ، ونفي مجمل [9] ، إثبات صفات الكمال على وجه التفصيل ، ونفي النقص والتمثيل ، كما دل على ذلك سورة : ( قل هو الله أحد الله الصمد ) ، وهي تعدل ثلث القرآن [ كما ثبت ذلك في الحديث [ ص: 186 ] الصحيح ] [10] ، وقد كتبنا تصنيفا [ مفردا ] في تفسيرها [11] وآخر في كونها تعدل ثلث القرآن [12] .

                  فاسمه الصمد يتضمن صفات الكمال ، كما روى الوالبي ، عن ابن عباس [ - رضي الله عنهما ] [13] أنه قال : [ هو ] [14] العليم الذي كمل في علمه ، والقدير الذي كمل في قدرته ، والسيد الذي كمل في سؤدده ، والشريف الذي كمل في شرفه ، والعظيم الذي كمل في عظمته ، والحليم الذي كمل في حلمه ، والحكيم الذي كمل في حكمته ، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، هو الله [ سبحانه وتعالى ] [15] هذه صفته [ لا تنبغي إلا له ] [16] .

                  والأحد يتضمن نفي المثل عنه [17] ، والتنزيه الذي يستحقه [ الرب ] [18] [ ص: 187 ] يجمعه نوعان : [ أحدهما ] [19] نفي النقص عنه ، والثاني : نفي مماثلة شيء من الأشياء فيما يستحقه من صفات الكمال ، فإثبات صفات الكمال له مع نفي مماثلة غيره له يجمع ذلك ، كما دلت عليه هذه السورة .

                  وأما المخالفون لهم من المشركين والصابئة ، ومن اتبعهم من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم ، فطريقتهم [20] : نفي مفصل وإثبات مجمل ، ينفون صفات الكمال ، ويثبتون ما لا يوجد إلا في الخيال ، فيقولون : [ ليس بكذا ولا كذا . فمنهم من يقول ] [21] : ليس له صفة ثبوتية ، بل إما سلبية ، وإما إضافية ، وإما مركبة منهما ، كما يقوله من يقوله من الصابئة والفلاسفة ، كابن سينا وأمثاله ، ويقول : هو وجود مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية عنه . ومنهم من يقول : وجود مطلق بشرط الإطلاق .

                  وقد قرروا في منطقهم ما هو معلوم بالعقل الصريح : أن المطلق بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان ، فلا يتصور في الخارج حيوان مطلق بشرط الإطلاق ، ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق ، ولا جسم مطلق بشرط الإطلاق ، فيبقى واجب الوجود ممتنع الوجود في الخارج ، وهذا مع أنه تعطيل وجهل وكفر فهو جمع بين النقيضين .

                  ومن قال : مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية ، فهذا أبعد من المطلق بشرط [22] الإطلاق ، فإن هذا قيده [23] بسلب الأمور الوجودية [24] دون [ ص: 188 ] العدمية ، وهذا [25] أولى بالعدم مما قيد [26] بسلب الأمور الوجودية والعدمية [27] ، وهو أيضا أبلغ في الامتناع ، فإن الموجود المشارك لغيره في الوجود لا يمتاز عنه بوصف عدمي بل بأمر وجودي ، فإذا قدر وجود لا يتمير عن غيره إلا بعدم ، كان أبلغ في الامتناع من وجود يتميز بسلب الوجود والعدم .

                  وأيضا ، فإن هذا يشارك سائر الموجودات في مسمى الوجود ، ويمتاز عنها بالعدم ، وهي تمتاز عنه بالوجود ، فيكون على قول هؤلاء : أي موجود من الممكنات قدر فهو أكمل من الواجب ، وهذا [ في ] غاية [ الفساد ] والكفر [28] .

                  وإن قالوا : هو مطلق لا بشرط ، كما يقوله [ الصدر ] القونوي [29] وأمثاله [ ص: 189 ] من القائلين بوحدة الوجود ، فالمطلق لا بشرط هو موضوع العلم الإلهي [30] عندهم ، الذي هو الحكمة العليا والفلسفة الأولى عندهم ، فإن الوجود المطلق لا بشرط ينقسم إلى : واجب وممكن ، وعلة ومعلول ، وجوهر وعرض ، وهذا موضوع [31] العلم الأعلى عندهم [32] الناظر في الوجود ولواحقه .

                  ومن المعلوم أن الوجود المنقسم إلى واجب وممكن لا يكون هو الوجود الواجب المطلق بشرط الإطلاق ، وهو الذي يسمونه الكلي الطبيعي ، ويتنازعون في وجوده في الخارج ، والتحقيق أنه يوجد في الخارج معينا لا كليا ، فما هو كلي في الأذهان يوجد في الأعيان ، لكن لا يوجد كليا .

                  فمن قال : الكلي الطبيعي موجود في الخارج ، وأراد هذا المعنى فقد أصاب .

                  وأما إن قال : إن [33] في الخارج ما هو كلي في الخارج - كما يقتضيه كلام كثير من هؤلاء الذين تكلموا في المنطق والإلهيات - وادعى أن في الخارج إنسانا مطلقا كليا ، [ وفرسا مطلقا كليا ] [34] ، وحيوانا مطلقا [ ص: 190 ] [ كليا ] [35] ، فهو مخطئ خطأ ظاهرا : سواء ادعى أن هذه الكليات مجردة عن الأعيان أزلية - كما يذكرونه عن أفلاطون [36] ويسمون ذلك " المثل الأفلاطونية " أو ادعى أنها لا تكون إلا مقارنة للمعينات ، أو ادعى [37] أن المطلق جزء من المعين - كما يذكرونه عن أرسطو وشيعته ، كابن سينا وأمثاله - ويقولون : إن النوع مركب من الجنس والفصل ، [ وإن ] الإنسان [38] مركب من الحيوان والناطق ، والفرس مركب من الحيوان والصاهل ، فإن هذا إن أريد به أن الإنسان متصف بهذا وهذا فهذا حق ، ولكن الصفة لا تكون سبب وجود [39] الموصوف ولا متقدمة عليه لا في الحس ولا في العقل ، ولا يكون الجوهر القائم بنفسه مركبا من عرضين .

                  وإن أراد به أن الإنسان الموجود في الخارج فيه جوهران قائمان بأنفسهما : أحدهما الحيوان ، والآخر الناطق ، فهذا مكابرة للعقل والحس .

                  وإن أريد بهذا التركيب تركيب الإنسان العقلي المتصور [40] في الأذهان لا الموجود في الأعيان فهذا صحيح ، لكن ذلك الإنسان هو بحسب ما يركبه الذهن ، فإن ركبه من الحيوان والناطق تركب منهما ، وإن ركبه من الحيوان والصاهل تركب منهما ، فدعوى المدعي : أن إحدى [ ص: 191 ] الصفتين [41] ذاتية مقومة للموصوف لا يتحقق بدونها لا في الخارج ولا في الذهن ، والأخرى عرضية يتقوم الموصوف بدونها مع كونها مساوية لتلك في اللزوم - تفريق بين المتماثلين .

                  والفروق التي يذكرونها بين الذاتي والعرضي - اللازم للماهية - هي ثلاثة ، وهي فروق منتقضة وهم معترفون بانتقاضها ، كما يعترف بذلك ابن سينا ومتبعوه شارحو " الإشارات " ، وكما ذكره صاحب " المعتبر " [42] وغيرهم ، والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع [43] .

                  وكذلك الكلام على قولهم وقول ( 4 من وافقهم من 4 ) [44] القائلين بوحدة الوجود في وجود واجب الوجود مبسوط في غير هذا الموضع ، والمقصود هنا كلام جملي على ما جاءت به الرسل صلوات الله [ وسلامه ] [45] عليهم أجمعين ، وهذا كله مبسوط في مواضعه .

                  [ ص: 192 ] لكن هذا الإمامي لما أخذ يذكر عن طائفته أنهم المصيبون في التوحيد دون غيرهم احتجنا إلى التنبيه على ذلك ، فنقول : أما [ ما ] ذكره [ من ] لفظ [46] الجسم وما يتبع ذلك ، فإن هذا اللفظ لم ينطق به في صفات الله تعالى لا كتاب ولا سنة ، لا نفيا ولا إثباتا ، ولا تكلم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، لا أهل البيت ولا غيرهم .

                  ولكن لما ابتدعت الجهمية القول بنفي الصفات في آخر [47] الدولة الأموية ، ويقال : إن أول من ابتدع ذلك هو الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ، وكان هذا الجعد من حران [48] ، وكان فيها أئمة الصابئة والفلاسفة ، والفارابي كان قد أخذ الفلسفة عن متى ثم دخل إلى حران فأخذ ما أخذه منها عن أولئك الصابئة الذين كانوا بحران ، وكانوا يعبدون الهياكل العلوية ويبنون [49] : هيكل العلة الأولى ، هيكل العقل الأول ، هيكل النفس الكلية ، هيكل زحل ، هيكل المشترى ، هيكل المريخ ، هيكل الشمس ، هيكل الزهرة ، هيكل عطارد ، هيكل القمر ، ويتقربون بما هو معروف عندهم [50] من أنواع العبادات والقرابين والبخورات وغير ذلك [51] .

                  [ ص: 193 ] وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده ، وكان مولده ( 1 عند أكثر الناس 1 ) [52] [ إما بالعراق أو ] [53] بحران ( 3 كما في التوراة 3 ) [54] ، ولهذا ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام ، وحكى الله عنه أنه ، لما رأى أنه [55] كوكبا ( قال هذا ربي ) [ إلى قوله : ( لا أحب الآفلين ) ] [56] إلى قوله : ( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) [ سورة الأنعام : 76 - 79 ] الآيات .

                  وقد ظن طائفة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أن مراده بقوله : ( هذا ربي ) أن هذا خالق العالم ، وأنه [57] استدل بالأفول - وهو الحركة والانتقال - على عدم ربوبيته ، وزعموا أن هذه الحجة هي الدالة على حدوث الأجسام وحدوث العالم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية