وأيضا ، فالممكنات فيها كمالات موجودة ، وهي من الواجب بنفسه ، ؛ إذ الكمال إما وجود ، وإما كمال وجود ، ومن أبدع الموجود كان أحق بأن يكون موجودا ؛ إذ [ ص: 183 ] المعدوم لا يكون مؤثرا في الموجود والمبدع للكمال المعطي له الخالق له أحق بالكمال [1] ، وهذا كله معلوم . فتبين أن الكمال ليس ممتنعا عليه ، وإذا كان جائزا أن يحصل وجائزا أن لا يحصل ، لم يكن حاصلا إلا بسبب آخر ، فيكون واجب الوجود مفتقرا في كماله إلى غيره ، وقد تبين بطلان هذا أيضا .
فتبين أن الكمال لازم لواجب الوجود واجب له يمتنع سلب الكمال عنه ، والكمال أمور وجودية ، فالأمور العدمية لا تكون كمالا إلا إذا تضمنت أمورا وجودية ، إذ العدم المحض ليس بشيء فضلا عن أن يكون كمالا ، فإن الله سبحانه إذا ذكر ما يذكره من تنزيهه ونفي النقائص عنه ، ذكر ذلك في سياق إثبات صفات الكمال له ، كقوله تعالى : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ) [ سورة البقرة : 255 ] . فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيومية ، وهذه من صفات الكمال
وكذلك قوله : لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) [ سورة سبأ : 3 ] ، فإن نفي عزوب ذلك عنه يتضمن علمه به ، وعلمه به من صفات الكمال .
وكذلك قوله : ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) [ سورة ق : 38 ] ، ، والقدرة من صفات الكمال ، فتنزيهه يتضمن كمال حياته وقيامه وعلمه وقدرته ، وهكذا نظائر ذلك . فتنزيهه لنفسه عن مس اللغوب يقتضي كمال قدرته
، إذ كل غاية تفرض كمالا إما أن تكون واجبة له أو ممكنة أو ممتنعة . والقسمان [ ص: 184 ] الأخيران فالرب تعالى موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها [2] باطلان فوجب الأول ، فهو منزه عن النقص وعن مساواة شيء من الأشياء له في صفات الكمال ، بل هذه المساواة هي من النقص أيضا ، وذلك لأن المتماثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ، ويجب له ما يجب له ، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ، فلو قدر أنه ماثل شيئا في شيء من الأشياء ، للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع [ على ] [3] ذلك الشيء ، وكل ما سواه ممكن قابل للعدم ، بل معدوم مفتقر إلى فاعل وهو مصنوع مربوب محدث ، فلو ماثل غيره في شيء من الأشياء ، للزم أن يكون هو والشيء الذي ماثله فيه ممكنا قابلا للعدم ، بل معدوما مفتقرا إلى فاعل ، مصنوعا مربوبا محدثا ، وقد تبين أن كماله لازم لذاته لا يمكن أن يكون مفتقرا فيه إلى غيره ، فضلا عن أن يكون ممكنا أو مصنوعا أو محدثا ، فلو قدر مماثلة غيره له في شيء من الأشياء ، للزم كون الشيء الواحد موجودا معدوما ، ممكنا واجبا ، قديما محدثا ، وهذا جمع بين النقيضين .
، فإن الله [ تعالى ] فالرب تعالى مستحق للكمال على وجه التفصيل كما أخبرت به الرسل [4] أخبر أنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه سميع بصير ، وأنه عليم قدير ، عزيز حكيم ، غفور رحيم ، ودود مجيد ، وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ، ويرضى عن [5] الذين [ ص: 185 ] آمنوا وعملوا الصالحات ، ولا يحب الفساد ، ولا يرضى لعباده الكفر ، وأنه خلق السماوات والأرض [ وما بينهما ] [6] في ستة أيام ثم استوى على العرش ، وأنه كلم موسى تكليما وناداه وناجاه ، إلى غير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة .
وقال في التنزيه : ( ليس كمثله شيء ) [ سورة الشورى : 11 ] ، ( هل تعلم له سميا ) [ سورة مريم : 65 ) ( فلا تضربوا لله الأمثال ) [ سورة النحل : 74 ] ، ( ولم يكن له كفوا أحد ) ، ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) [ سورة البقرة : 22 ] فنزه نفسه عن النظير باسم الكفء والمثل والند والسمي [7] .
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع ، وكتبنا رسالة مفردة في قوله : ( ليس كمثله شيء ) ، وما فيها من الأسرار والمعاني الشريفة [8] .
فهذه طريقة الرسل وأتباعهم من سلف الأمة وأئمتها : إثبات مفصل ، ونفي مجمل [9] ، ، كما دل على ذلك سورة : ( إثبات صفات الكمال على وجه التفصيل ، ونفي النقص والتمثيل قل هو الله أحد الله الصمد ) ، وهي تعدل ثلث القرآن [ كما ثبت ذلك في الحديث [ ص: 186 ] الصحيح ] [10] ، وقد كتبنا تصنيفا [ مفردا ] في تفسيرها [11] وآخر في كونها تعدل ثلث القرآن [12] .
فاسمه الصمد يتضمن صفات الكمال ، كما روى الوالبي ، عن [ - رضي الله عنهما ] ابن عباس [13] أنه قال : [ هو ] [14] العليم الذي كمل في علمه ، والقدير الذي كمل في قدرته ، والسيد الذي كمل في سؤدده ، والشريف الذي كمل في شرفه ، والعظيم الذي كمل في عظمته ، والحليم الذي كمل في حلمه ، والحكيم الذي كمل في حكمته ، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، هو الله [ سبحانه وتعالى ] [15] هذه صفته [ لا تنبغي إلا له ] [16] .
والأحد يتضمن نفي المثل عنه [17] ، والتنزيه الذي يستحقه [ الرب ] [18] [ ص: 187 ] يجمعه نوعان : [ أحدهما ] [19] نفي النقص عنه ، والثاني : نفي مماثلة شيء من الأشياء فيما يستحقه من صفات الكمال ، فإثبات صفات الكمال له مع نفي مماثلة غيره له يجمع ذلك ، كما دلت عليه هذه السورة .
وأما المخالفون لهم من والصابئة ، ومن اتبعهم من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم ، فطريقتهم [20] : نفي مفصل وإثبات مجمل ، ينفون صفات الكمال ، ويثبتون ما لا يوجد إلا في الخيال ، فيقولون : [ ليس بكذا ولا كذا . فمنهم من يقول ] المشركين [21] : ليس له صفة ثبوتية ، بل إما سلبية ، وإما إضافية ، وإما مركبة منهما ، كما يقوله من يقوله من الصابئة والفلاسفة ، وأمثاله ، ويقول : هو وجود مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية عنه . ومنهم من يقول : وجود مطلق بشرط الإطلاق . كابن سينا
وقد قرروا في منطقهم ما هو معلوم بالعقل الصريح : أن المطلق بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان ، فلا يتصور في الخارج حيوان مطلق بشرط الإطلاق ، ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق ، ولا جسم مطلق بشرط الإطلاق ، فيبقى واجب الوجود ممتنع الوجود في الخارج ، وهذا مع أنه تعطيل وجهل وكفر فهو جمع بين النقيضين .
ومن قال : مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية ، فهذا أبعد من المطلق بشرط [22] الإطلاق ، فإن هذا قيده [23] بسلب الأمور الوجودية [24] دون [ ص: 188 ] العدمية ، وهذا [25] أولى بالعدم مما قيد [26] بسلب الأمور الوجودية والعدمية [27] ، وهو أيضا أبلغ في الامتناع ، فإن الموجود المشارك لغيره في الوجود لا يمتاز عنه بوصف عدمي بل بأمر وجودي ، فإذا قدر وجود لا يتمير عن غيره إلا بعدم ، كان أبلغ في الامتناع من وجود يتميز بسلب الوجود والعدم .
وأيضا ، فإن هذا يشارك سائر الموجودات في مسمى الوجود ، ويمتاز عنها بالعدم ، وهي تمتاز عنه بالوجود ، فيكون على قول هؤلاء : أي موجود من الممكنات قدر فهو أكمل من الواجب ، وهذا [ في ] غاية [ الفساد ] والكفر [28] .
وإن قالوا : هو مطلق لا بشرط ، كما يقوله [ الصدر ] القونوي [29] وأمثاله [ ص: 189 ] من القائلين بوحدة الوجود ، فالمطلق لا بشرط هو موضوع العلم الإلهي [30] عندهم ، الذي هو الحكمة العليا والفلسفة الأولى عندهم ، فإن الوجود المطلق لا بشرط ينقسم إلى : واجب وممكن ، وعلة ومعلول ، وجوهر وعرض ، وهذا موضوع [31] العلم الأعلى عندهم [32] الناظر في الوجود ولواحقه .
ومن المعلوم أن الوجود المنقسم إلى واجب وممكن لا يكون هو الوجود الواجب المطلق بشرط الإطلاق ، وهو الذي يسمونه الكلي الطبيعي ، ويتنازعون في وجوده في الخارج ، والتحقيق أنه يوجد في الخارج معينا لا كليا ، فما هو كلي في الأذهان يوجد في الأعيان ، لكن لا يوجد كليا .
فمن قال : الكلي الطبيعي موجود في الخارج ، وأراد هذا المعنى فقد أصاب .
وأما إن قال : إن [33] في الخارج ما هو كلي في الخارج - كما يقتضيه كلام كثير من هؤلاء الذين تكلموا في المنطق والإلهيات - وادعى أن في الخارج إنسانا مطلقا كليا ، [ وفرسا مطلقا كليا ] [34] ، وحيوانا مطلقا [ ص: 190 ] [ كليا ] [35] ، فهو مخطئ خطأ ظاهرا : سواء ادعى أن هذه الكليات مجردة عن الأعيان أزلية - كما يذكرونه عن أفلاطون [36] ويسمون ذلك " المثل الأفلاطونية " أو ادعى أنها لا تكون إلا مقارنة للمعينات ، أو ادعى [37] أن المطلق جزء من المعين - كما يذكرونه عن أرسطو وشيعته ، وأمثاله - ويقولون : إن النوع مركب من الجنس والفصل ، [ وإن ] الإنسان كابن سينا [38] مركب من الحيوان والناطق ، والفرس مركب من الحيوان والصاهل ، فإن هذا إن أريد به أن الإنسان متصف بهذا وهذا فهذا حق ، ولكن الصفة لا تكون سبب وجود [39] الموصوف ولا متقدمة عليه لا في الحس ولا في العقل ، ولا يكون الجوهر القائم بنفسه مركبا من عرضين .
وإن أراد به أن الإنسان الموجود في الخارج فيه جوهران قائمان بأنفسهما : أحدهما الحيوان ، والآخر الناطق ، فهذا مكابرة للعقل والحس .
وإن أريد بهذا التركيب تركيب الإنسان العقلي المتصور [40] في الأذهان لا الموجود في الأعيان فهذا صحيح ، لكن ذلك الإنسان هو بحسب ما يركبه الذهن ، فإن ركبه من الحيوان والناطق تركب منهما ، وإن ركبه من الحيوان والصاهل تركب منهما ، فدعوى المدعي : أن إحدى [ ص: 191 ] الصفتين [41] ذاتية مقومة للموصوف لا يتحقق بدونها لا في الخارج ولا في الذهن ، والأخرى عرضية يتقوم الموصوف بدونها مع كونها مساوية لتلك في اللزوم - تفريق بين المتماثلين .
والفروق التي يذكرونها بين الذاتي والعرضي - اللازم للماهية - هي ثلاثة ، وهي فروق منتقضة وهم معترفون بانتقاضها ، كما يعترف بذلك ومتبعوه شارحو " الإشارات " ، وكما ذكره صاحب " المعتبر " ابن سينا [42] وغيرهم ، والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع [43] .
وكذلك الكلام على قولهم وقول ( 4 من وافقهم من 4 ) [44] القائلين بوحدة الوجود في وجود واجب الوجود مبسوط في غير هذا الموضع ، والمقصود هنا كلام جملي على ما جاءت به الرسل صلوات الله [ وسلامه ] [45] عليهم أجمعين ، وهذا كله مبسوط في مواضعه .
[ ص: 192 ] لكن هذا الإمامي لما أخذ يذكر عن طائفته أنهم المصيبون في التوحيد دون غيرهم احتجنا إلى التنبيه على ذلك ، فنقول : أما [ ما ] ذكره [ من ] لفظ [46] الجسم وما يتبع ذلك ، فإن هذا اللفظ لم ينطق به في صفات الله تعالى لا كتاب ولا سنة ، لا نفيا ولا إثباتا ، ولا تكلم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، لا أهل البيت ولا غيرهم .
ولكن لما ابتدعت الجهمية القول بنفي الصفات في آخر [47] الدولة الأموية ، ويقال : إن أول من ابتدع ذلك هو معلم الجعد بن درهم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ، وكان هذا الجعد من حران [48] ، وكان فيها أئمة الصابئة والفلاسفة ، كان قد أخذ الفلسفة عن والفارابي متى ثم دخل إلى حران فأخذ ما أخذه منها عن أولئك الصابئة الذين كانوا بحران ، وكانوا يعبدون الهياكل العلوية ويبنون [49] : هيكل العلة الأولى ، هيكل العقل الأول ، هيكل النفس الكلية ، هيكل زحل ، هيكل المشترى ، هيكل المريخ ، هيكل الشمس ، هيكل الزهرة ، هيكل عطارد ، هيكل القمر ، ويتقربون بما هو معروف عندهم [50] من أنواع العبادات والقرابين والبخورات وغير ذلك [51] .
[ ص: 193 ] وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده ، وكان مولده ( 1 عند أكثر الناس 1 ) [52] [ إما بالعراق أو ] [53] بحران ( 3 كما في التوراة 3 ) [54] ، ولهذا ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام ، وحكى الله عنه أنه ، لما رأى أنه [55] كوكبا ( قال هذا ربي ) [ إلى قوله : ( لا أحب الآفلين ) ] [56] إلى قوله : ( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) [ سورة الأنعام : 76 - 79 ] الآيات .
وقد ظن طائفة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أن مراده بقوله : ( هذا ربي ) أن هذا خالق العالم ، وأنه [57] استدل بالأفول - وهو الحركة والانتقال - على عدم ربوبيته ، وزعموا أن هذه الحجة هي الدالة على حدوث الأجسام وحدوث العالم .