الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وهذا من الكلام الذي بقي على الأشعري من بقايا كلام المعتزلة ، فإنه خالف [1] المعتزلة لما رجع عن مذهبهم في أصولهم التي اشتهروا فيها بمخالفة [2] [ أهل ] [3] السنة كإثبات الصفات والرؤية ، وأن القرآن غير [ ص: 228 ] مخلوق ، وإثبات القدر ، وغير ذلك من مقالات أهل السنة والحديث ، وذكر في كتاب " المقالات " أنه يقول بما ذكره عن أهل السنة والحديث [4] .

                  وذكر في " الإبانة " أنه يأتم بقول الإمام أحمد . قال [5] : " فإنه [6] الإمام الكامل ، والرئيس الفاضل [7] ، الذي أبان [ الله ] به الحق [8] ، وأوضح به المنهاج [9] ، وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين ، وشك الشاكين " .

                  وقال [10] : " فإن قال قائل [11] : قد أنكرتم قول الجهمية والمعتزلة والقدرية [ والمرجئة ] [12] " واحتج في ضمن ذلك بمقدمات سلمها [ ص: 229 ] للمعتزلة مثل هذا الكلام ، فصارت المعتزلة [ وغيرهم من أهل الكلام ] [13] يقولون [14] : إنه متناقض في ذلك .

                  وكذلك سائر أهل السنة والحديث يقولون : إن هذا تناقض [15] ، وإن هذه بقية [16] بقيت عليه من كلام المعتزلة .

                  وأصل ذلك هو هذا الكلام ، وهو موجود في كلام كثير من أصحاب أحمد والشافعي ومالك ، وكثير من هؤلاء يخالف الأشعري في مسائل ، وقد [ وافقه ] [17] على الأصل الذي ترجع إليه تلك المسائل ، فيقول الناس في تناقضه كما قالوه في تناقض الأشعري ، وكما قالوه في تناقض المعتزلة وتناقض الفلاسفة ، فما من طائفة فيها نوع يسير من مخالفة السنة المحضة والحديث إلا ويوجد في كلامها من التناقض بحسب ذلك ، وأعظمهم تناقضا أبعدهم عن السنة ، كالفلاسفة ثم المعتزلة والرافضة .

                  فلما اعتقد هؤلاء أنهم [18] أثبتوا بهذا الدليل حدوث الجسم ، لزم انتفاء ذلك عن الله ; لأن الله قديم ليس بمحدث ، فقالت المعتزلة : ما قامت به الصفات فهو جسم ; لأن الصفات أعراض ، والعرض لا يقوم [ ص: 230 ] إلا بجسم ، فنفت الصفات ، ونفت أيضا قيام الأفعال الاختيارية به ; لأنها أعراض ولأنها حوادث ، فقالت : القرآن مخلوق ; لأن القرآن كلام وهو عرض ; ولأنه يفتقر إلى الحركة وهي حادثة ، فلا يقوم إلا بجسم .

                  وقالت أيضا : إنه لا يرى في الآخرة ; لأن العين لا ترى إلا جسما أو قائما بجسم .

                  وقالت : ليس [ هو ] [19] فوق العالم ; لأن ذلك مقام [20] مكان ، والمكان لا يكون [ به ] [21] إلا جسم [22] ، أو ما يقوم بجسم .

                  وهذا هو المذهب الذي ذكره هذا الإمامي ، وهو لم يبسط الكلام فيه ، فلذا [23] اقتصرنا [24] على هذا القدر ؛ إذ الكلام على ذلك مبسوط في موضع آخر .

                  فقالت مثبتة الصفات للمعتزلة : أنتم تقولون : إن الله حي عليم قدير ، وهذا لا يكون إلا جسما ، فإن طردتم قولكم لزم أن يكون الله جسما ، وإن قلتم : بل يسمى بهذه الأسماء من ليس بجسم [25] ، قيل لكم : وتثبت هذه الصفات لمن ليس بجسم .

                  وقالوا لهم أيضا : إثبات حي بلا حياة ، وعالم بلا علم ، وقادر [ ص: 231 ] بلا قدرة ، مثل إثبات أسود بلا سواد ، وأبيض بلا بياض ، وقائم بلا قيام ، ومصل بلا صلاة ، ومتكلم بلا كلام ، وفاعل بلا فعل ، وهذا [26] مما يعلم فساده لغة وعقلا .

                  وقالوا لهم أيضا : أنتم تعلمون أنه حي عالم قادر ، وليس كونه حيا هو كونه عالما ، ولا كونه عالما هو كونه قادرا .

                  فهذه المعاني التي تعقلونها وتثبتونها [27] هي الصفات ، سواء سميتموها أحكاما أو أحوالا أو معاني أو غير ذلك ، فليس الاعتبار بالألفاظ بل بالمعاني المعقولة .

                  ومن تدبر كلام أئمة المعتزلة والشيعة والفلاسفة نفاة الصفات وجدهم في غاية التناقض ، كما تقول الفلاسفة : إنه عاقل [28] ومعقول وعقل ، وعاشق ومعشوق وعشق .

                  ثم يقولون : هذا المعنى هو هذا المعنى ، وإن العالم هو العلم ، فيجعلون إحدى الصفتين هي الأخرى ، ويجعلون الموصوف هو الصفة .

                  وأيضا ، فما يشنع به هؤلاء على أهل السنة هم يقولون به بغير اختيارهم . ومن تدبر كلام أبي الحسين البصري [29] وأمثاله من أئمة المعتزلة ، وجد المعاني التي يثبتها [30] هي قول الصفاتية ، لكن ليس هذا موضع بسط ذلك ؛ إذ الكلام هنا مختصر بحسب هذا المقام ، وقد نبهنا [ ص: 232 ] على أن أهل السنة يقولون [31] بالحق مطلقا ، وأنه ما من قول يثبت بشرع [32] وعقل إلا وقد قال به أئمة [33] أهل السنة ، وهذا هو المقصود في هذا المقام .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية