وهذا الأشعري من بقايا كلام من الكلام الذي بقي على المعتزلة ، فإنه خالف [1] المعتزلة لما رجع عن مذهبهم في أصولهم التي اشتهروا فيها بمخالفة [2] [ أهل ] [3] السنة كإثبات الصفات والرؤية ، وأن القرآن غير [ ص: 228 ] مخلوق ، وإثبات القدر ، وغير ذلك من مقالات أهل السنة والحديث ، وذكر في كتاب " المقالات " أنه يقول بما ذكره عن أهل السنة والحديث [4] .
وذكر في " الإبانة " أنه يأتم بقول . قال الإمام أحمد [5] : " فإنه [6] الإمام الكامل ، والرئيس الفاضل [7] ، الذي أبان [ الله ] به الحق [8] ، وأوضح به المنهاج [9] ، وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين ، وشك الشاكين " .
وقال [10] : " فإن قال قائل [11] : قد أنكرتم قول الجهمية والمعتزلة والقدرية [ والمرجئة ] [12] " واحتج في ضمن ذلك بمقدمات سلمها [ ص: 229 ] للمعتزلة مثل هذا الكلام ، فصارت المعتزلة [ وغيرهم من أهل الكلام ] [13] يقولون [14] : إنه متناقض في ذلك .
وكذلك سائر أهل السنة والحديث يقولون : إن هذا تناقض [15] ، وإن هذه بقية [16] بقيت عليه من كلام المعتزلة .
وأصل ذلك هو هذا الكلام ، وهو موجود في كلام كثير من أصحاب أحمد والشافعي ، وكثير من هؤلاء يخالف ومالك في مسائل ، وقد [ وافقه ] الأشعري [17] على الأصل الذي ترجع إليه تلك المسائل ، فيقول الناس في تناقضه كما قالوه في تناقض ، وكما قالوه في تناقض الأشعري المعتزلة وتناقض الفلاسفة ، فما من طائفة فيها نوع يسير من مخالفة السنة المحضة والحديث إلا ويوجد في كلامها من التناقض بحسب ذلك ، وأعظمهم تناقضا أبعدهم عن السنة ، كالفلاسفة ثم المعتزلة والرافضة .
فلما اعتقد هؤلاء أنهم [18] أثبتوا بهذا الدليل حدوث الجسم ، لزم انتفاء ذلك عن الله ; لأن الله قديم ليس بمحدث ، فقالت المعتزلة : ما قامت به الصفات فهو جسم ; لأن الصفات أعراض ، والعرض لا يقوم [ ص: 230 ] إلا بجسم ، فنفت الصفات ، ونفت أيضا قيام الأفعال الاختيارية به ; لأنها أعراض ولأنها حوادث ، فقالت : القرآن مخلوق ; لأن القرآن كلام وهو عرض ; ولأنه يفتقر إلى الحركة وهي حادثة ، فلا يقوم إلا بجسم .
وقالت أيضا : إنه لا يرى في الآخرة ; لأن العين لا ترى إلا جسما أو قائما بجسم .
وقالت : ليس [ هو ] [19] فوق العالم ; لأن ذلك مقام [20] مكان ، والمكان لا يكون [ به ] [21] إلا جسم [22] ، أو ما يقوم بجسم .
وهذا هو المذهب الذي ذكره هذا الإمامي ، وهو لم يبسط الكلام فيه ، فلذا [23] اقتصرنا [24] على هذا القدر ؛ إذ الكلام على ذلك مبسوط في موضع آخر .
فقالت مثبتة الصفات للمعتزلة : أنتم تقولون : إن الله حي عليم قدير ، وهذا لا يكون إلا جسما ، فإن طردتم قولكم لزم أن يكون الله جسما ، وإن قلتم : بل يسمى بهذه الأسماء من ليس بجسم [25] ، قيل لكم : وتثبت هذه الصفات لمن ليس بجسم .
وقالوا لهم أيضا : إثبات حي بلا حياة ، وعالم بلا علم ، وقادر [ ص: 231 ] بلا قدرة ، مثل إثبات أسود بلا سواد ، وأبيض بلا بياض ، وقائم بلا قيام ، ومصل بلا صلاة ، ومتكلم بلا كلام ، وفاعل بلا فعل ، وهذا [26] مما يعلم فساده لغة وعقلا .
وقالوا لهم أيضا : أنتم تعلمون أنه حي عالم قادر ، وليس كونه حيا هو كونه عالما ، ولا كونه عالما هو كونه قادرا .
فهذه المعاني التي تعقلونها وتثبتونها [27] هي الصفات ، سواء سميتموها أحكاما أو أحوالا أو معاني أو غير ذلك ، فليس الاعتبار بالألفاظ بل بالمعاني المعقولة .
ومن تدبر كلام أئمة المعتزلة والشيعة والفلاسفة نفاة الصفات وجدهم في غاية التناقض ، كما تقول الفلاسفة : إنه عاقل [28] ومعقول وعقل ، وعاشق ومعشوق وعشق .
ثم يقولون : هذا المعنى هو هذا المعنى ، وإن العالم هو العلم ، فيجعلون إحدى الصفتين هي الأخرى ، ويجعلون الموصوف هو الصفة .
وأيضا ، فما يشنع به هؤلاء على أهل السنة هم يقولون به بغير اختيارهم . ومن تدبر كلام أبي الحسين البصري [29] وأمثاله من أئمة المعتزلة ، وجد المعاني التي يثبتها [30] هي قول الصفاتية ، لكن ليس هذا موضع بسط ذلك ؛ إذ الكلام هنا مختصر بحسب هذا المقام ، وقد نبهنا [ ص: 232 ] على أن أهل السنة يقولون [31] بالحق مطلقا ، وأنه ما من قول يثبت بشرع [32] وعقل إلا وقد قال به أئمة [33] أهل السنة ، وهذا هو المقصود في هذا المقام .