ذكره أبو عبيد في كتابه وقال: الأجذم: المقطوع اليد، واحتج بقول الشاعر:
وهل كنت إلا مثل قاطع كفه بكف له أخرى فأصبح أجذما
واعترض عليه ابن قتيبة في كتابه الذي سماه إصلاح الغلط، وزعم أنه تدبر هذا التفسير فرآه إنما أتي فيه من قبل البيت الذي استشهده، قال: قال: وإذا حملنا الحديث على ما ذهب إليه رأينا عقوبة الذنب لا تشاكل الذنب؛ لأن اليد لا سبب لها في نسيان القرآن، والعقوبات من الله -عز وجل- تكون بحسب الذنوب كقوله: وليس كل أجذم أقطع اليد، الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يريد أن الربا الذي أكلوه ربا في بطونهم وأثقلهم، وكقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رأيت ليلة أسري بي قوما تقرض شفاههم كلما قرضت وفت، فقال جبريل: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون" ؛ لأنهم قالوا بأفواههم فعوقبوا فيها، ومثل هذا كثير.
[ ص: 310 ]
قال ابن قتيبة: والأجذم ها هنا المجذوم. يقال: رجل أجذم وقوم جذمى مثل أحمق وحمقى وأنوك ونوكى، وإنما سمي من به هذا الداء أجذم؛ لأنه يقطع أصابع يديه، وينقص خلقه، وكل شيء قطعته فقد جذمته، وهذا أشبه بالعقوبة؛ لأن القرآن كان يدفع عن جسمه كله العاهة، ويحفظ له صحته، فلما نسيه فارقه ذلك فنالته الآفة في جميعه، ولا داء أشمل للبدن من الجذام ولا أفسد للخلقة.
قال أما التفسير فعلى ما ذكره أبو سليمان: أبو عبيد لم يؤت فيه من قبل البيت، إلا أنه أغفل بيان المعنى، واقتصر على اللفظ، وسنذكر المعنى فيه إذا أتينا على الاحتجاج لقوله: وانفصلنا له من ابن قتيبة إن شاء الله، وقد سبق أبو عبيد إلى هذا التفسير، وروي معناه عن سويد بن جبلة الفزاري أخبرنا محمد بن المكي، ثنا نا الصائغ، نا سعيد بن منصور، عن فرج بن فضالة، عن سويد بن جبلة قال: سمعته يقول: ما أبالي تعلمت سورة من القرآن، ثم تركتها، أو مشيت في الناس مقطوعة يدي. فمعلوم أن لقمان بن عامر، سويدا إنما تلقاه من الخبر، وأن الأجذم عنده المقطوع اليد دون الذي أصابه الجذام، وكذلك تفسير الأجذم، إنما هو الأقطع في عامة ما ورد من الأخبار منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: أي: أقطع. يدل على هذا ما روي من وجه آخر أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أجذم" . "كل خطبة ليس فيها شهادة كاليد الجذماء"
حدثناه أحمد بن إبراهيم بن مالك، نا نا معاذ بن المثنى، عبد الرحمن بن [ ص: 311 ] المبارك السدوسي، ثنا ثنا عبد الواحد بن زياد، عن أبيه، عن عاصم بن كليب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبي هريرة "كل خطبة ليس فيها شهادة كاليد الجذماء".
وحدثنا عبد الرحمن بن الأسد، ثنا عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، أيوب، عن قال: حميد بن هلال لقتلة عبد الله بن سلام إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى اليوم، فوالله لئن قتلتموه لتذهبن، ثم لا تعود أبدا، فوالله لا يقتله رجل إلا لقي الله أجذم لا يد له. عثمان: ومثله في الحديث كثير. قال
وأما القول فيه هذا هو الظاهر في عرف اللغة، فأما من أبين منه عضو غير اليد فإنما يضاف القطع إليه باسمه، وكذلك الأجذم إذا أطلق، فإنما يلقى من جذمت يده أي: قطعت، وقل ما يقال فيمن أصابه داء الجذام: أجذم، إنما يقال: مجذوم، وبه جاء الخبر، وهو ما يروى أنه قال: فر من المجذوم فرارك من الأسد . على مذهب أهل اللغة فإن تقدير الأجذم عندهم، من الجذم تقدير الأقطع من القطع لا يكادون يقولون أقطع وهم يريدون مقطوع الأذن، أو مجدوع الأنف، إنما ينزلونه خصوصا على المقطوع اليد،
فأما قوله: في مشاكلة العقوبات الذنوب، واطراد القياس فيها على ما تمثل به من آية الربا ففيه نظر، وقد جاء في الحديث: "من تحلم كاذبا، فقال: رأيت ما لم ير كلف عقد شعيرة في النار".
[ ص: 312 ]
وكان الواجب على هذا القياس أن تناله العقوبة في عينه، إلا أنا لم نكلف القياس في أمر الآخرة، وإنما ننتهي من علمه إلى ما نطق به القرآن، ووردت به الأخبار الصحيحة، ولو كان القياس الذي اعتبره في مشاكلة العقوبات الذنوب معنى صحيحا لكانت أحكام الدنيا بها أولى؛ إذ كنا متعبدين بالقياس فيها، وقد وجدنا كثيرا من الحدود والعقوبات الواجبة فيها معدولا بها عن مواقعة الأعضاء التي باشرت تلك الذنوب الموجبة لتلك العقوبات. ألا ترى أن القاذف يقذف بلسانه فيجلد ظهره، والزاني يزني بفرجه فيفرق الحد على أعضائه، ويجتنب الفرج خاصة مع سائر المقاتل -والله أعلم- بالمصالح، وله أن يتعبدنا بما شاء من حكمه، وكل ذلك حكمة وصواب، وإن زلت عنه أفهامنا ولم تدركه عقولنا مع أن قول ابن قتيبة؛ إذ يقول: ولا سبب لليد في نسيان القرآن ينقض كلامه في الفصل الآخر حين يقول: لأن اليد لم تخرج عن رعاية القرآن ولم تخل من حفظه، والعجب منه حين لم يقنع من عقوبته بقطع اليد وإبانة الكف، ثم رضي بقطع الأصابع والنقص العارض لبعض الأعضاء، ومعلوم أن الجذام داء يعالج فيزول، وأن العضو المقطوع تالف لا يعود.
قال ومعنى الخبر ما ذهب إليه أبو سليمان: ابن الأعرابي: محمد بن زياد. قال هذا مثل، والمعنى أن من نسي القرآن لقي الله خالي اليد من الخير، صفرها من الثواب، كنى باليد عما تحويه اليد وتشتمل عليه من الخير كقولهم إذا وصفوا الرجل بانقطاع القدرة: فلان لا يد له، وإنه لقصير اليد إذا كان بخيلا، كما قالوا: جعد البنان، وكز البنان، وفلان طويل اليد، [ ص: 313 ] إذا وصف بالجود وبسط المقدرة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لنسائه: ابن الأعرابي: "أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا" فكانت سودة، وكانت امرأة تحب الصدقة.
ويدل على صحة ما ذهب إليه حديث حدثنيه بكير بن الحداد، نا أبو السري محمد بن نعيم الأنصاري، نا عصمة بن فضالة الزرقي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في حملة القرآن والعلم: "لا تعجلوا ثواب القرآن في الدنيا فتلقوا الله يوم القيامة وأيديكم مما حملتم صفر" .
ويؤيده قول حدثنيه مجاهد، عبد العزيز بن محمد المسكي، نا ابن الجنيد، نا قتيبة، نا الفضيل، عن عن ليث، قال: مجاهد "القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة فيقول: رب جعلتني في جوفه، فأسهرت ليله، ومنعته كثيرا من شهواته، ولكل عامل عمالة، فيقول: ابسط يدك أو يمينك فيملؤها من رضوانه، ولا يسخط عليه بعدها".
وفيه وجه آخر، وهو أن تكون اليد ها هنا بمعنى الحجة والبرهان، وإلى هذا أشار أخبرنا طلق بن حبيب، نا محمد بن هاشم، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن عبد الكريم أبي أمية، عن الدبري، قال: طلق بن حبيب "من تعلم القرآن، ثم نسيه من غير عذر جاء يوم القيامة مخصوما".