الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
السبب الذي من أجله كثر غريب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.  

إن الذي قدمناه من ذكر جوامع كلامه، وفصلناه من ضروب بيانه يكفي سببا لكثرة ما يوجد من الغريب في حديثه، ثم إنه صلى الله عليه بعث مبلغا ومعلما، فهو لا يزال في كل مقام يقومه وموطن يشهده يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ويشرع في حادثة، ويفتي في نازلة، الأسماع إليه مصغية، والقلوب لما يرد عليها من قوله واعية، وقد تختلف عباراته، ويتكرر فيها بيانه، ليكون أوقع للسامعين، وأقرب إلى فهم من كان منهم أقل فقها وأقرب بالإسلام عهدا، وأولو الحفظ والإتقان من فقهاء الصحابة يرعونها كلها سمعا، ويستوفونها حفظا، ويؤدونها على اختلاف جهاتها، فيجتمع لذلك في القضية الواحدة عدة ألفاظ، تحتها معنى واحد، وذلك كقوله: الولد للفراش، وللعاهر الحجر ، وفي رواية أخرى وللعاهر الإثلب ) ، وقد مر بمسامعي ولم يثبت عندي (وللعاهر الكثكث ) .

وقد يتكلم صلى الله عليه في بعض النوازل وبحضرته أخلاط من الناس قبائلهم شتى ولغاتهم مختلفة ومراتبهم في الحفظ والإتقان غير متساوية وليس كلهم يتيسر لضبط اللفظ وحصره، أو يتعمد لحفظه ووعيه، وإنما [ ص: 69 ] يستدرك المراد بالفحوى، ويتعلق منه بالمعنى، ثم يؤديه بلغته ويعبر عنه بلسان قبيلته، فيجتمع في الحديث الواحد إذا انشعبت طرقه عدة ألفاظ مختلفة موجبها شيء واحد، وهذا كما يروى أن رجلا كان يهدي إلى رسول الله كل عام راوية خمر، فأهداها عام حرمت، فقال: إنها حرمت، فاستأذنه في بيعها، فقال له: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، قال: فما أصنع بها؟ قال: سنها في البطحاء، قال: فسنها . وجاء في رواية أخرى (فهتها ) ، وفي رواية أخرى (فبعها ) والمعنى واحد.

ولكثرة ما يرد من هذا ومن نظائره يقول أبو عبيدة معمر بن المثنى: أعيانا أن نعرف أو نحصي غريب حديث رسول الله صلى الله عليه.

حدثنيه أحمد بن مالك، نا الدغولي، عن المظفري قال: قال ذلك أبو عبيدة. وحدثني إبراهيم بن فراس، نا أحمد بن علي الأعرج، سمعت علي بن خشرم، سمعت سفيان بن عيينة يقول: سألت عن تفسير الحديث خمسين سنة. قال أبو سليمان: وقد كان قد بقي عليه بعد ما لم يعرفه.

حدثني محمد بن الحسين الآبري، نا محمد بن إسحاق بن خزيمة، سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: سئل ابن عيينة عن قوله: من استجمر فليوتر فسكت، فقيل له: أترضى بما قال مالك؟ قال: وما قال [ ص: 70 ] مالك؟ قيل، قال مالك: الاستجمار: الاستطابة بالأحجار، فقال ابن عيينة: مثلي ومثل مالك كما قال الأول:


وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس

.

قال: وبلغني أن أبا عبيد القاسم بن سلام مكث في تصنيف كتابه أربعين سنة يسأل العلماء عما أودعه من تفسير الحديث، والناس إذ ذاك متوافرون، والروضة أنف، والحوض ملآن، ثم قد غادر الكثير منه لمن بعده، ثم سعى له أبو محمد سعي الجواد إذا استولى على الأمد، فأسأر القدر الذي جمعناه في كتابنا هذا، وقد بقي من وراء ذلك أحاديث ذات عدد لم أتيسر لتفسيرها، تركتها ليفتحها الله على من يشاء من عباده، ولكل وقت قوم، ولكل نشء علم، قال الله تعالى: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية