ذكر فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يؤثر من حسن بيانه
إن الله جل وعز لما وضع رسوله موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ليباشر في لباسه مشاهد التبليغ وينبذ القول بأوكد البيان والتعريف، ثم أمده بجوامع الكلم التي جعلها ردءا لنبوته وعلما لرسالته; لينتظم في القليل منها علم الكثير، فيسهل على السامعين حفظه ولا يؤودهم حمله، ومن تتبع الجوامع من كلامه لم يعدم بيانها، وقد وصفت منها ضروبا، وكتبت لك من أمثلتها حروفا تدل على ما وراءها من نظائرها وأخواتها، فمنها في القضايا والأحكام قوله: وقوله: المؤمنون تكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من [ ص: 65 ] سواهم، ، فهذان الحديثان على خفة ألفاظهما يتضمنان عامة أحكام الأنفس والأموال. المنيحة مردودة، والعارية مؤداة، والدين مقضي، والزعيم غارم
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: فتأمل هذه الوصية الجامعة تجدها محيطة بخير الدنيا والآخرة; وذلك أن ملاك أمر الآخرة اليقين، وملاك أمر الدنيا العافية، فكل طاعة لا يقين معها هدر، وكل نعمة لم تصحبها العافية كدر، فصار هذا الكلام على وجازته وقلة حروفه أحد شطريه محيطا بجوامع أمر الدين، وشطره الآخر متضمنا عامة مصالح الدنيا. سلوا الله اليقين والعافية
ضرب آخر:
ومن فصاحته وحسن بيانه أنه قد تكلم بألفاظ اقتضبها لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، كقوله: ، وقوله: مات حتف أنفه وقوله في المسلم والكافر: حمي الوطيس ) ، . في ألفاظ ذات عدد من هذا الباب تجري مجرى الأمثال، وقد يدخل في هذا النوع إحداثه الأسماء الشرعية، ولذكرها موضع غير هذا. لا تراءى [ ص: 66 ] ناراهما
ضرب آخر:
ومن فصاحته وسعة بيانه أنه قد يوجد في كلامه الغريب الوحشي الذي يعيا به قومه وأصحابه وعامتهم عرب صرحاء، لسانهم لسانه، ودارهم داره.
حدثني عبد الله بن محمد المسكي، نا إسحاق بن إبراهيم، نا عبدوس بن سليمان البلخي، أخبرني الحكم بن المبارك، نا محمد بن حرب الخولاني، حدثني محمد بن الوليد، عن عن سليم بن عامر، فرات البهراني، عن أبي عامر أن رجلا قال: يا رسول الله، من أهل النار؟ قال: كل قعبري، قال: يا رسول الله، وما القعبري؟ قال: الشديد على الأهل، الشديد على العشيرة، الشديد على الصاحب . وأخبرنا نا ابن الأعرابي، محمد بن منظور بن منقذ الأسدي، نا أبو غسان، نا عن إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة . ألا أنبئكم [ ص: 67 ] بأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: كل جظ جعظ، قلت: ما الجظ؟ قال: الضخم، قلت: ما الجعظ؟ قال: العظيم في نفسه
ضرب آخر:
ومن حسن بيانه ترتيب الكلام وتنزيله منازله:
حدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك، نا عمر بن حفص السدوسي، نا نا عاصم بن علي، عيسى بن عبد الرحمن، حدثني عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، قال: البراء بن عازب . جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني عملا يدخلني الجنة، فقال: أعتق النسمة وفك الرقبة، قال: أوليسا واحدا؟ قال: لا، عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها
حدثنا نا الأصم، نا الربيع بن سليمان، أنا الشافعي، عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، أبيه أن رسول الله صلى الله عليه قال: فتأمل كيف رتب الوعي على الحفظ، فاشترط عليه الحفظ أولا، وهو تلقف ألفاظها وجمعها في صدره، ثم أمره بالوعي، وهو مراقبته إياها بالتذكر، وتخولها بالرعاية والاستصحاب لها إلى أن يؤديها فيخرج من العهدة فيها [ ص: 68 ] . نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها .. الحديث ) ،
وهذا الباب يطول على من يريد أن يتقصاه، وإنما نريد الإذكار لا الإكثار.