الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وعلى هذا يخرج قضاء القاضي بعلم نفسه ، في الجملة ، فنقول : تفصيل الكلام فيه أنه لا يخلو إما أن قضى بعلم استفاده في زمن القضاء ومكانه ، وهو الموضع الذي قلد قضاءه ، وإما أن قضى بعلم استفاده قبل زمان القضاء ، وفي غير مكانه ، وإما أن قضى بعلم استفاده بعد زمان القضاء ، في غير مكانه ، فإن قضى بعلم استفاده في زمن القضاء ، وفي مكانه ، بأن سمع رجلا أقر لرجل بمال ، أو سمعه يطلق امرأته ، أو يعتق عبده ، أو يقذف [ ص: 7 ] رجلا ، أو رآه يقتل إنسانا ، وهو قاض في البلد الذي قلد قضاءها ، جاز قضاؤه عندنا ، ولا يجوز قضاؤه به في الحدود الخالصة ، بلا خلاف بين أصحابنا ، إلا أن في السرقة يقضي بالمال لا بالقطع ، وللشافعي فيه قولان ، في قول : لا يجوز له أن يقضي به في الكل ، وفي قول : يجوز في الكل .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله الأول ، أن القاضي مأمور بالقضاء بالبينة ، ولو جاز له القضاء بعلمه ، لم يبق مأمورا بالقضاء بالبينة ، وهذا المعنى لا يفصل بين الحدود وغيرها .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله الثاني ، أن المقصود من البينة العلم بحكم الحادثة ، وقد علم ، وهذا لا يوجب الفصل بين الحدود وغيرها ; لأن علمه لا يختلف .

                                                                                                                                ( ولنا ) أنه جاز له القضاء بالبينة ، فيجوز القضاء بعلمه بطريق الأولى ; وهذا لأن المقصود من البينة ليس عينها ، بل حصول العلم بحكم الحادثة ، وعلمه الحاصل بالمعاينة ، أقوى من علمه الحاصل بالشهادة ; لأن الحاصل بالشهادة علم غالب الرأي وأكثر الظن ، والحاصل بالحس والمشاهدة علم القطع واليقين ، فكان هذا أقوى ، فكان القضاء به أولى ، إلا أنه لا يقضي به في الحدود الخالصة ; لأن الحدود يحتاط في درئها ، وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم نفسه ; ولأن الحجة في وضع الشيء ، هي البينة التي تتكلم بها ، ومعنى البينة وإن وجد ، فقد فاتت صورتها ، وفوات الصورة يورث شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات ، بخلاف القصاص فإنه حق العبد ، وحقوق العباد لا يحتاط في إسقاطها ، وكذا حد القذف ; لأن فيه حق العبد ، وكلاهما لا يسقطان بشبهة فوات الصورة ، هذا إذا قضى بعلم استفاده في زمن القضاء ومكانه ، فأما إذا قضى بعلم ، استفاده في غير زمن القضاء ومكانه ، أو في زمان القضاء في غير مكانه ، وذلك قبل أن يصل إلى البلد ، الذي ولي قضاءه ، فإنه لا يجوز عند أبي حنيفة أصلا ، وعندهما يجوز فيما سوى الحدود الخالصة ، فأما في الحدود الخالصة فلا يجوز .

                                                                                                                                وجه قولهما أنه لما جاز له أن يقضي بالعلم المستفاد في زمن القضاء ، جاز له أن يقضي بالعلم المستفاد قبل زمن القضاء ; لأن العلم في الحالين على حد واحد ، إلا أن ههنا استدام العلم ، الذي كان له قبل القضاء ، بتجدد أمثاله ، وهناك حدث له علم لم يكن ، وهما سواء في المعنى ، إلا أنه لم يقض به في الحدود الخالصة ; لتمكن الشبهة فيه باعتبار التهمة ، والشبهة تؤثر في الحدود الخالصة ، ولا تؤثر في حقوق العباد على ما مر ، ولأبي حنيفة الفرق بين العلمين ، وهو أن العلم الحادث له في زمن القضاء علم في وقت هو مكلف فيه بالقضاء ، فأشبه البينة القائمة فيه ، والعلم الحاصل في غير زمان القضاء علم في وقت هو غير مكلف فيه بالقضاء ، فأشبه البينة القائمة فيه ; وهذا لأن الأصل في صحة القضاء هو البينة ، إلا أن غيرها قد يلحق بها ; إذا كان في معناها ، والعلم الحادث في زمان القضاء - في معنى البينة - يكون حادثا في وقت هو مكلف بالقضاء ، فكان في معنى البينة ، والحاصل قبل زمان القضاء ، أو قبل الوصول إلى مكانه ، حاصل في وقت هو غير مكلف بالقضاء ، فلم يكن في معنى البينة ، فلم يجز القضاء به ، فهو الفرق بين العلمين .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية