الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو استأجر رجلا ليحفر له بئرا في الطريق فحفر فوقع فيها إنسان ، فإن كانت البئر في فناء المستأجر فالضمان عليه لا على الأجير ; لأن له ولاية الانتفاع بفنائه إذا لم يتضمن الضرر بالمارة على أصلهما مطلقا ، وعلى أصل أبي حنيفة - رحمه الله - إذا لم يمنع منه مانع فانصرف مطلق الأمر بالحفر إليه ، فإذا حفر في فنائه انتقل فعل المأمور إليه كأنه حفر بنفسه ، فوقع فيها إنسان ، ولو كان كذلك - وجب الضمان عليه كذا هذا ، وإن لم يكن ذلك في فنائه ، فإن أعلم المستأجر الأجير أن ذلك ليس من فنائه فالضمان على الأجير لا على الآمر ; لأن الأجير لم يحفر بأمره فبقي فعله مقصورا عليه كأنه ابتدأ الحفر من نفسه من غير أمر فوقع فيها إنسان ، وإن لم يعلمه فالضمان على الآمر ; لأنه غره بالأمر بحفر البئر في الطريق مطلقا إنما يأمر بما يملكه مطلقا عادة ، فيلزمه ضمان الغرور ، وهو ضمان الكفالة في الحقيقة كأنه ضمن له ما يلزمه من الحفر بمنزلة ضمان الدرك .

                                                                                                                                ولو أمر عبده أن يحفر بئرا في الطريق فحفر فوقع فيها إنسان فإن كان الحفر في فنائه فالضمان على عاقلة المولى ; لأنه يملك الأمر بالحفر في هذا المكان فينتقل فعله إلى المولى كأنه حفر بنفسه ، وإن كان في غير فنائه فالضمان في رقبة العبد يخاطب المولى بالدفع أو الفداء ; لأن الأمر بالحفر لا ينصرف إلى غير فنائه فصار مبتدئا في الحفر بنفسه سواء أعلم العبد أنه ليس من فنائه أو لم يعلمه بخلاف الأجير ; لأن وجوب الضمان على الآمر هناك بمعنى الغرور على ما بينا ، ولا يتحقق الغرور فيما بين العبد وبين مولاه ، فيستوي فيه العلم والجهل ، وإن كان الحفر في الملك فإن كان الحفر في ملك غيره بأن حفر بئرا في دار إنسان بغير إذنه فوقع فيها إنسان يضمن الحافر ; لأنه متعد في التسبيب ، ولو قال صاحب الدار : أنا أمرته بالحفر وأنكر أولياء الميت - فالقياس أن لا يصدق صاحب الدار ، والقول قول الورثة ، وفي الاستحسان : يصدق والقول قول الحافر .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن الحفر وقع موجبا للضمان ظاهرا ; لأنه صادف ملك الغير ، وأنه محظور ، فكان متعديا في الحفر من حيث الظاهر ، فصاحب الدار بالتصديق يريد إبراء الجاني عن الضمان فلا يصدق .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان : أن قول صاحب الدار : أمرته بذلك إقرار منه بما يملك إنشاءه للحال ، وهو الأمر بالحفر فيصدق ، وإن كان في ملك نفسه لا ضمان عليه ; لأن الحفر مباح مطلق له ، فلم يكن متعديا في التسبيب ، وإن كان في فنائه يضمن ; لأن الانتفاع به مباح بشرط السلامة كالسير في الطريق .

                                                                                                                                ولو استأجر أربعة يحفرون له بئرا ، فوقعت عليهم من حفرهم ، فمات أحدهم - فعلى كل واحد من الثلاثة ربع الدية ، وهدر [ ص: 278 ] الربع ; لأنه مات من أربع جنايات إلا أن جناية المرء على نفسه هدر ، فبطل الربع ، وبقي جنايات أصحابه عليه ، فتعتبر ، ويجب عليهم ثلاث أرباع الدية على كل واحد منهم الربع .

                                                                                                                                وقد روى الشعبي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قضى على القارصة والقامصة والواقصة بالدية أثلاثا وهن ثلاث جوار ركبت إحداهن الأخرى فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فقضى للتي وقصت بثلثي الدية على صاحبتها ، وأسقط الثلث ; لأن الواقصة أعانت على نفسها وروي أن عشرة مدوا نخلة فسقطت على أحدهم ، فمات فقضى سيدنا علي رضي الله عنه على كل واحد منهم بعشر الدية ، وأسقط العشر ; لأن المقتول أعان على نفسه .

                                                                                                                                ولو استأجر أجراء حرا وعبدا محجورا ومكاتبا يحفرون له بئرا ، فوقعت البئر عليهم من حفرهم ، فماتوا - فلا ضمان على المستأجر في الحر ولا في المكاتب ، ويضمن قيمة العبد المحجور لمولاه أما الحر والمكاتب فلأنه لم يوجد فيهما من المستأجر سبب وجوب الضمان ; لأن استئجارهما وقع صحيحا ، فكان استعماله إياهما في الحفر بناء على عقد صحيح ، فلا يكون سببا لوجوب الضمان ، ووقوع البئر عليهما حصل من غير صنعه فلا يجب الضمان عليه .

                                                                                                                                وأما العبد فلأن استئجاره لم يصح ، فصار المستأجر باستعماله في الحفر غاصبا إياه فدخل في ضمانه ، فإذا هلك فقد تقرر الضمان ، فعليه قيمته لمولاه ثم إذا دفع قيمته إلى المولى - فالمولى يدفع القيمة إلى ورثة الحر والمكاتب فيتضاربون فيها فيضرب ورثة الحر بثلث دية الحر وورثة المكاتب بثلث قيمة المكاتب .

                                                                                                                                وإنما كان كذلك ; لأن موت كل واحد منهم حصل بثلاث جنايات : بجناية نفسه ، وجناية صاحبيه ، فصار قدر الثلث من الحر والمكاتب تالفا بجناية العبد ، وجناية القن توجب الدفع ، ولو كان قنا لوجب دفعه إلى ورثة الحر والمكاتب يتضاربون في رقبته على قدر حقوقهم ، فإذا هلك وجب دفع القيمة إليهم يتضاربون فيها أيضا فيضرب ورثة الحر فيها بثلث دية الحر ، وورثة المكاتب بثلث قيمة المكاتب ; لأن الحر مضمون بالدية ، والمكاتب مضمون بالقيمة ثم يرجع المولى على المستأجر بقيمة العبد مرة أخرى ، ويسلم له تلك القيمة ; لأنه ، وإن رد المغصوب إلى المغصوب منه برد قيمته إليه ، لكنه رده مشغولا ، وقد كان غصبه فارغا ، فلم يصح رده في حق الشغل ، فيضمن القيمة مرة أخرى ، وللمستأجر أن يرجع على عاقلة الحر بثلث قيمة العبد ; لأن ملك العبد بالضمان من وقت الغصب فتبين أن الجناية حصلت من الحر على ثلث عبد المستأجر ، فيضمن ثلث قيمته فتؤخذ من عاقلته ، ويأخذ ورثة المكاتب أيضا من عاقلة الحر ثلث قيمة المكاتب لوجود الجناية من الحر على ثلث قيمته فيضمن ثلث قيمته ، فتؤخذ من عاقلته ثم يؤخذ من تركة المكاتب مقدار قيمته فتكون بين ورثة الحر وبين المستأجر ; لوجود الجناية منه على الحر وعلى العبد يضرب ورثة الحر بثلث دية الحر ، ويضرب المستأجر بثلث قيمة العبد لأنه جنى على ثلث الحر وعلى ثلث العبد فأتلف من كل واحد منهما ثلثه ، والحر مضمون بالدية ، والعبد بالقيمة ، وقد ملك المستأجر العبد بالضمان ، فكان ضمان الواردة على ملكه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية