الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ومنها : أن لا يقبل الهدية من أحدهما ، إلا إذا كان لا يلحقه به تهمة .

                                                                                                                                وجملة الكلام فيه : أن المهدي لا يخلو إما أن يكون رجلا كان يهدي إليه قبل تقليد القضاء ، وإما أن كان لا يهدي إليه ، فإن كان لا يهدي إليه ، فإما إن كان قريبا له أو أجنبيا ، فإن كان قريبا له ينظر إن كان له خصومة في الحال ، فإنه لا يقبل ; لأنه يلحقه التهمة ، وإن كان لا خصومة له في الحال يقبل ; لأنه لا تهمة فيه ، وإن كان أجنبيا [ ص: 10 ] لا يقبل ، سواء كان له خصومة في الحال ، أو لا ; لأنه إن كان له خصومة في الحال ، كان بمعنى الرشوة ، وإن لم يكن ; فربما يكون له خصومة في الحال يأتي بعد ذلك ، فلا يقبل ولو قبل يكون لبيت المال ، هذا إذا كان الرجل لا يهدي إليه قبل تقليد القضاء ، فأما إذا كان يهدي إليه ، فإن كان له في الحال خصومة لا تقبل ; لأنه يتهم فيه .

                                                                                                                                وإن كان لا خصومة له في الحال ، ينظر إن كان أهدى مثل ما كان يهدي أو أقل يقبل ; لأنه لا تهمة فيه ، وإن كان أكثر من ذلك يرد الزيادة عليه ، وإن قبل كان لبيت المال ، وإن لم يقبل للحال حتى انقضت الخصومة ثم قبلها ، لا بأس به ، ومنها : أن لا يجيب الدعوة الخاصة ، بأن كانوا خمسة أو عشرة ; لأنه لا يخلو من التهمة ، إلا إذا كان صاحب الدعوة ممن كان يتخذ له الدعوة قبل القضاء ، أو كان بينه وبين القاضي قرابة ، فلا بأس بأن يحضر إذا لم يكن له خصومة ; لانعدام التهمة ، فإن عرف القاضي له خصومة لم يحضرها .

                                                                                                                                وأما الدعوة العامة : فإن كانت بدعة ، كدعوة المباراة ونحوها ; لا يحل له أن يحضرها لأنه لا يحل لغير القاضي إجابتها فالقاضي أولى ، وإن كانت سنة كوليمة العرس والختان ، فإنه يجيبها ; لأنه إجابة السنة ، ولا تهمة فيه .

                                                                                                                                ومنها : أن لا يلقن أحد الخصمين حجته ; لأن فيه مكسرة قلب الآخر ; ولأن فيه إعانة أحد الخصمين ، فيوجب التهمة ، غير أنه إن تكلم أحدهما ، أسكت الآخر ; ليفهم كلامه ومنها : أن لا يلقن الشاهد ، بل يتركه يشهد بما عنده ، فإن أوجب الشرع قبوله قبله ، وإلا رده ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد ، وهو قول أبي يوسف الأول ، ثم رجع وقال : لا بأس بتلقين الشاهد بأن يقول : أتشهد بكذا وكذا وجه قوله أن من الجائز أن الشاهد يلحقه الحصر ; لمهابة مجلس القضاء ، فيعجزه عن إقامة الحجة ، فكان التلقين تقويما لحجة ثابتة فلا بأس به ، ولهما أن القاضي يتهم بتلقين الشاهد فيتحرج عنه ومنها : أن لا يعبث بالشهود ; لأن ذلك يشوش عليهم عقولهم فلا يمكنهم أداء الشهادة على وجهها ، وإذا اتهم الشهود فلا بأس بأن يفرقهم عند أداء الشهادة ، فيسألهم أين كان ومتى كان ؟ فإن اختلفوا اختلافا يوجب رد الشهادة ; ردها وإلا فلا ، ويشهد القاضي الجنازة ; لأن ذلك حق الميت على المسلمين ، فلم يكن متهما في أداء سنة فيحضرها ، إلا إذا اجتمعت الجنائز على وجه : لو حضرها كلها لشغله ذلك عن أمور المسلمين فلا بأس أن لا يشهد ; لأن القضاء فرض عين ، وصلاة الجنازة فرض كفاية ، فكان إقامة فرض العين عند تعذر الجمع بينهما أولى .

                                                                                                                                ويعود المريض أيضا ; لأن ذلك حق المسلمين على المسلمين ، فلا يلحقه التهمة بإقامته ويسلم على الخصوم إذا دخلوا المحكمة ; لأن السلام من سنة الإسلام - وكان شريح يسلم على الخصوم - لكن لا يخص أحد الخصمين بالتسليم عليه دون الآخر ، وهذا قبل جلوسه في مجلس الحكم ، فأما إذا جلس لا يسلم عليهم ، ولا هم يسلمون عليه ، أما هو فلا يسلم عليهم ; لأن السنة أن يسلم القائم على القاعد ، لا القاعد على القائم ، وهو قاعد وهم قيام .

                                                                                                                                وأما هم فلا يسلمون عليه ; لأنهم لو سلموا عليه لا يلزمه الرد ; لأنه اشتغل بأمر هو أهم وأعظم من رد السلام ، فلا يلزمه الاشتغال كذا ذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني في رجل يقرأ القرآن ، فدخل عليه آخر : أنه لا ينبغي له أن يسلم عليه ، ولو سلم عليه لا يلزمه الجواب ، وكذا المدرس إذا جلس للتدريس لا ينبغي لأحد أن يسلم عليه ، ولو سلم لا يلزمه الرد ; لما قلنا ، بخلاف الأمير إذا جلس فدخل عليه الناس ، إنهم يسلمون عليه وهو السنة ، وإن كان سلاطين زماننا يكرهون التسليم عليهم وهو خطأ منهم ; لأنهم جلسوا للزيارة ، ومن سنة الزائر التسليم على من دخل عليه .

                                                                                                                                وأما القاضي فإنما جلس للعبادة لا للزيارة ، فلا يسن التسليم عليه ، ولا يلزمه الجواب إن سلموا ، لكن لو أجاب جاز .

                                                                                                                                ومنها : أن يسأل القاضي عن حال الشهود ، فيما سوى الحدود والقصاص ، وإن لم يطعن الخصم ، وهو من آداب القاضي عند أبي حنيفة رحمه الله ; لأن القضاء بظاهر العدالة ، وإن كان جائزا عنده فلا شك أن القضاء بالعدالة الحقيقية أفضل .

                                                                                                                                وأما عندهما فهو من واجبات القضاء ، وكذا إذا طعن الخصم عنده في غير الحدود والقصاص ، وفي الحدود والقصاص طعن أو لم يطعن ، ثم القضاة من السلف كانوا يسألون بأنفسهم عن حال الشهود من أهل محلتهم ، وأهل سوقهم ، وإن كان الشاهد سوقيا ممن هو أتقى الناس ، وأورعهم ، وأعظمهم أمانة ، وأعرفهم بأحوال الناس ظاهرا أو باطنا ، والقضاة في زماننا نصبوا للعدل ، تيسيرا للأمر عليهم ; لما يتعذر على القاضي طلب المعدل في كل شاهد ، فاستحسنوا نصب العدل .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية