( فصل ) :
وأما شرائط جواز إقامتها فمنها ما يعم الحدود كلها ، ومنها ما يخص البعض دون البعض ، أما الذي يعم الحدود كلها فهو الإمامة : وهو وهذا عندنا ، وعند أن يكون المقيم للحد هو الإمام أو من ولاه الإمام هذا ليس بشرط ، وللرجل أن يقيم الحد على مملوكه - إذا ظهر الحد عنده بالإقرار أربعا عندنا ، ومرة عنده وبالمعاينة بأن رأى عبده زنى بأجنبية ، ولو ظهر عنده بالشهود بأن شهدوا عنده والمولى من أهل القضاء - فله فيه قولان ، وكذا في إقامة المرأة الحد على مملوكها ، وإقامة المكاتب الحد على عبد من أكسابه له فيه قولان ، احتج بما روي عن سيدنا الشافعي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { علي } وهذا نص . أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم
وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : { } أي بحبل ، وهذا أيضا نص في الباب ; ولأن السلطان إنما ملك الإقامة ; لتسلطه على الرعية ، وتسلط المولى على مملوكه فوق تسلط السلطان على رعيته ، ألا ترى أنه يملك الإقرار عليه بالدين ، ويملك عليه التصرفات ، والإمام لا يملك شيئا من ذلك : فلما ثبت الجواز للسلطان فالمولى أولى ; ولهذا ملك إقامة التعزير عليه ، كذا الحد . إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ، فإن عادت - فليجلدها ، فإن عادت - فليجلدها ، فإن عادت - فليبعها ولو بضفير
( ولنا ) أن ولاية إقامة الحدود ثابتة للإمام بطريق التعيين ، والمولى لا يساويه فيما شرع له بهذه الولاية ، فلا يثبت له ولاية الإقامة استدلالا بولاية إنكاح الصغار والصغائر ; لأنها لما ثبتت للأقرب - لم تثبت لمن لا يساويه فيما شرع له الولاية وهو الأبعد ، وبيان ذلك أن ولاية إقامة الحد إنما ثبتت للإمام ; لمصلحة العباد وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ; لأن القضاة يمتنعون من التعرض خوفا من إقامة الحد عليهم ، والمولى لا يساوي الإمام في هذا المعنى ; لأن ذلك يقف على الإمامة ، والإمام قادر على الإقامة ; لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهرا وجبرا ، ولا يخاف تبعة الجناة وأتباعهم ; لانعدام المعارضة بينهم وبين الإمام ، وتهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه فيقيم على وجهها فيحصل الغرض المشروع له الولاية بيقين .
وأما المولى فربما يقدر على الإقامة نفسها وربما لا يقدر ; لمعارضة العبد إياه ; ولأنه رقباني مثله يعارضه فيمنعه عن الإقامة - خصوصا عند خوف الهلاك على نفسه - فلا يقدر على الإقامة ، وكذا المولى يخاف على نفسه وماله من العبد الشرير ، ولو قصد إقامة الحد عليه أن يأخذ بعض أمواله ويقصد إهلاكه ، ويهرب منه فيمتنع عن الإقامة ، ولو قدر على الإقامة فقد يقيم [ ص: 58 ] وقد لا يقيم ; لما في الإقامة من نقصان قيمته بسبب عيب الزنا والسرقة ، أو يخاف سراية الجلدات إلى الهلاك .
والمرء مجبول على حب المال ، ولو أقام - فقد يقيم على الوجه وقد لا يقيم على الوجه ، بل من حيث الصورة فلا يحصل الزجر ، فثبت أن المولى لا يساوي الإمام في تحصيل ما شرع له إقامة الحد ، فلا يزاحمه في الولاية بخلاف التعزير من وجهين : أحدهما - أن التعزير : هو التغيير والتوبيخ وذلك غير مقدر ، فقد يكون بالحبس وقد يكون برفع الصوت وتعبيس الوجه ، وقد يكون بضرب أسواط على حسب الجناية وحال الجاني ; لما نذكره في موضعه ، والمولى يساوي الإمام في هذا ; لأنه من باب التأديب فله قدرة التأديب ، والعبد ينقاد لمثله للمولى ولا يعارضه ، فالمولى أيضا لا يمتنع عن هذا القدر من الإيلام ; لأنه لا يوجب نقصانا في مالية العبد ولا تعييبا فيه ، بخلاف الحد .
والثاني - أن في التعزير ضرورة ليست في الحد ; لأن أسباب التعزير مما يكثر وجودها ، فيحتاج المولى إلى أن يعزر مملوكه في كل يوم وفي كل ساعة ، وفي الرفع إلى الإمام في كل حين وزمان حرج عظيم على الموالي ; ففوضت إقامة الحد إلى الموالي شرعا ، أو صار المولى مأذونا في ذلك من جهة الإمام دلالة ، وصار نائبا عن الإمام فيه ، ولا حرج في الحد ; لأنه لا يكثر وجوده ; لانعدام كثرة أسباب وجوبه وأما الحديثان فيحتمل أن يكون خطابا لقوم معلومين ، علم عليه الصلاة والسلام منهم من طريق الوحي أنهم يقيمون الحدود من غير تقصير مثل الأمير والسلطان ، ويحتمل أن يكون ذلك خطابا للأئمة في حق عبيدهم ، والتخصيص للترغيب في إقامة الحد ; لما أن الأئمة والسلاطين لا يباشرون الإقامة بأنفسهم عادة بل يفوضونها إلى الحكام والمحتسبين ، وقد يجيء منهم في ذلك تقصير ، ويحتمل الإقامة بطريق التسبب بالسعي لرفع ذلك إلى الإمام بطريق الحسبة ، وتخصيص المولى للترغيب لهم في الإقامة ; لاحتمال الميل والتقصير في ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد من الحد المذكور في الحديث التعزير ; لوجود معنى الحد فيه - وهو المنع - فلا يصح الاحتجاج بهما مع الاحتمال ، والله - تعالى - أعلم .
; لأنه لا يقدر على استيفاء الجميع بنفسه ; لأن أسباب وجوبها توجد في أقطار دار الإسلام ، ولا يمكنه الذهاب إليها ، وفي الإحضار إلى مكان الإمام حرج عظيم ، فلو لم يجز الاستخلاف - لتعطلت الحدود وهذا لا يجوز ; ولهذا { وللإمام أن يستخلف على إقامة الحدود كان عليه الصلاة والسلام يجعل إلى الخلفاء تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود } ، ثم نوعان : تنصيص ، وتولية ، أما التنصيص : فهو أن ينص على إقامة الحدود ; فيجوز للخليفة إقامتها بلا شك . الاستخلاف
وأما فعلى ضربين : عامة ، وخاصة فالعامة : هي أن يولي رجلا ولاية عامة ، مثل إمارة إقليم أو بلد عظيم فيملك المولى إقامة الحدود وإن لم ينص عليها ; لأنه لما قلده إمارة ذلك البلد فقد فوض إليه القيام بمصالح المسلمين - وإقامة الحدود معظم مصالحهم - فيملكها ، والخاصة : هي أن يولي رجلا ولاية خاصة ، مثل جباية الخراج ونحو ذلك فلا يملك إقامة الحدود ; لأن هذه التولية لم تتناول إقامة الحدود ، ولو استعمل أمير على الجيش الكبير فإن كان أمير مصر أو مدينة فغزا بجنده - فإنه يملك إقامة الحدود في معسكره ; لأنه كان يملك الإقامة في بلده ، فإذا خرج بأهله أو ببعضهم ملك عليهم ما كان يملك فيهم قبل الخروج . التولية
وأما من أخرجه أمير البلد غازيا فما كان يملك إقامة الحد عليهم قبل الخروج وبعد الخروج ، لم يفوض إليه الإقامة فلا يملك الإقامة ، والإمام العدل له أن يقيم الحدود وينفذ القضاء في معسكره ، كما له أن يفعل ذلك في المصر ; لأن للإمام ولاية على جميع دار الإسلام ثابتة ، وكذا إذا استعمل قاضيا له أن يفعل ذلك في المعسكر ; لأنه نائب الإمام ، والله - تعالى - أعلم .