( فصل ) :
وأما بيان فنقول - وبالله تعالى التوفيق - إن لتعلق الدين أحكاما منها حكم التعلق من القاضي ; لأن معنى تعلق الدين منه ليس إلا تعينه لاستيفاء الدين منه وهو في الحقيقة تعين ماليته للاستيفاء ; لأن استيفاء الدين من جنسه يكون ، وذلك ماليته لا عينه وذلك بيعه وأخذ ثمنه إلا أن يقضي المولى ديونهم فتخلص له الرقبة ; لأن حقهم في المالية دون العين ، وقد قضى حقهم فبطل التعلق ، ومنها أنه إذا بيع العبد كان ثمنه بين الغرماء بالحصص ; لأن الثمن بدل الرقبة فيكون لهم على قدر تعلق حقهم بالمبدل وهو الرقبة ، وكان ذلك بالحصص فكذا الثمن كثمن التركة إذا بيعت ثم إذا بيع العبد ، فإن فضل شيء من ثمنه فهو للمولى وإن فضل الدين لا يطالب المولى به ; لأنه لا دين على المولى ويتبع العبد به بعد العتاق ; لأن الدين كان عليه إلا أن القدر الذي تعلق برقبته صار مقضيا فبقي الفاضل عليه ، وإنما يباع العبد في الدين إذا كان حالا ، فإن كان مؤجلا لا يباع إلى حل الأجل ; لأن البيع يتبع التعلق ، والتعلق يتبع الوجوب ، والوجوب على التضييق لا يثبت إلا بعد حل الأجل فكذا التعلق ، ولو كان بعضه حالا وبعضه مؤجلا فطلب أصحاب الحال البيع باعه القاضي وأعطى أصحاب الحال قدر حصتهم وأمسك حصة أصحاب الأجل ; لأن التعليق على التضييق ثبت في حق أصحاب الحال لا في حق أصحاب الأجل ، وكذلك لو كان الغرماء بعضهم حضورا وبعضهم غيبا فطلب الحضور البيع من القاضي باعه القاضي وأعطى الحضور حصتهم ، ووقف حصة الغيب ; لأن لكل واحد منهم على الانفراد دينا متعلقا بالرقبة ، وذا يوجب التحويج إلى البيع فغيبة البعض لا تكون مانعة ، وكذلك إذا كان بعض الديون ظاهرا ، والبعض لا يظهر لكن ظهر سبب وجوبه بأن كان عليه دين فحفر بئرا على طريق المسلمين فطلب الغريم البيع باعه القاضي في دينه وأعطاه دينه . ولاية طلب البيع للغرماء
وإن كان لا يفضل الثمن عن دينه شيئا ; لأن ظهور دينه أوجب التعلق برقبته فلا يجوز ترك العمل بالظاهر بما لم يظهر ثم إذا وقعت فيها بهيمة فعطبت رجع صاحب البهيمة على الغريم فيتضاربان ، فيضرب صاحب البهيمة بقيمتها ويضرب الغريم بدينه فيكون الثمن بينهما بالحصص ; لأن الحكم مستند إلى وقت وجود سببه فيتبين أنه كان شريكه في الرقبة في تعلق الدين فيتشاركان في بدلها بالحصص يصدق في ذلك صدقه المولى والغرماء أو كذبوه ; لأن إقرار المأذون بالدين صحيح من غير تصديق المولى لما بينا ، وإذا بيع وقف القاضي من ثمنه حصة الغائب ، ولو أقر بدين لغائب بعد ما بيع في الدين لم يجز إقراره . ولو كان عليه دين فأقر قبل أن يباع لغائب
وإن صدقه المولى ; لأنه إذا بيع فقد صار محجورا عليه ، وإقرار المحجور بالدين لا يصح ، وإن صدقه المولى ، فإن قدم الغائب وأقام بينة على الدين أتبع الغرماء بحصته من الثمن ; لأنه بإقامة البينة ظهر إن كان شريكهم في الرقبة في تعلق الدين فشاركهم في بدلها ولا سبيل له على العبد ولا على المشتري ; لأن حقه في الدين ، ومحل تعلقه الرقبة لا غير فلا سبيل له على غيرها ، والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها أنه لا يجوز للمولى إلا بإذن الغرماء أو بقضاء الدين أو بإذن القاضي بالبيع للغرماء ، ولو باع لا ينفذ إلا إذا وصل إليهم الثمن وفيه وفاء بديونهم ; لأن حق الغرماء متعلق برقبته وفي البيع إبطال هذا الحق عليهم فلا ينفذ من غير رضاهم كبيع المرهون إلا أن يصل ثمنه إليهم وفيه وفاء بديونهم فينفذ لما بينا أن حقهم في معنى الرقبة لا في صورتها فصار كما لو قضى المولى الدين من خالص ماله ، ودل إطلاق هذه الرواية على أن الدين حال قيام الكسب يتعلق بالكسب والرقبة جميعا ; لأنه بقي جواز بيع المولى مطلقا عن شرط عدم الكسب ، ولو كان قيام الكسب مانعا من التعلق بالرقبة [ ص: 205 ] لجاز ; لأن الرقبة إذ ذاك تكون خالص ملك المولى ، وتصرف الإنسان في خالص ملكه نافذ إلا أن يحمل على حال عدم الكسب حملا للمطلق على المقيد ، والله سبحانه وتعالى أعلم . بيع العبد الذي عليه دين
لم يجز إلا أن يجيزه الباقون لتعلق حق كل واحد بالرقبة فكان البيع تصرفا في حق الكل فلا ينفذ من غير إجازتهم ثم فرق بين بيع المولى وبين بيع الوصي التركة في الدين من غير إذن الغرماء أنه ينفذ هناك ، وهنا لا ينفذ . ولو أذن له بعض الغرماء بالبيع
( ووجه ) الفرق أن للغرماء حق استسعاء المأذون ، وهذا الحق يبطل بالبيع فكان امتناع النفاذ مفيدا ، وليس للغرماء ولاية استسعاء التركة لما فيه من تأخير قضاء دين الميت فكان عدم النفاذ للوصول إلى الثمن خاصة ، وأنه يحصل ببيع الوصي فلم يكن التوقف مفيدا فلا يتوقف هذا إذا كان الدين حالا ، فإن كان مؤجلا نفذ البيع في ظاهر الرواية ; لأن المانع من النفاذ هو التعلق عن التضييق ولم يوجد ثم إذا حل الأجل ، فإن كانت ديونهم مثل الثمن أو أقل أخذوا منه ، وإن كانت ديونهم أكثر من الثمن ضمنوا المولى إلى تمام قيمة العبد وروي عن - رحمه الله - في النوادر أنه لا ينفذ بيع المولى لوجود أصل التعليق هذا إذا كان العبد قائما في يد المشتري ، فإن كان هالكا ، فالغرماء بالخيار إن شاءوا ضمنوا المولى . محمد
وإن شاءوا ضمنوا المشتري قيمة العبد ; لأن كل واحد منهما غاصب لحقهم فكان لهم تضمين أيهما شاءوا ، فإن اختاروا تضمين المولى نفذ بيعه ; لأنه خلص ملكه فيه عند البيع باختيار الضمان فكأنهم باعوه منه بثمن هو قدر قيمته واشتراه منهم به حتى له أن يرجع بالنقصان على المولى ، وللمولى أن يرجع به على الغرماء ، وإن اختاروا تضمين المشتري بطل البيع ; لأنه يمكن تمليكه منه بالضمان فبطل واسترد الثمن ، ولو لم يهلك العبد في يد المشتري ولكن غاب المولى ، فإن وجدوه ضمنوه القيمة ، وإن لم يجدوه فلا خصومة بينهم وبين المشتري عند لو وجد المشتري به عيبا بعد هلاكه ومحمد - رحمهما الله - وعند أبي حنيفة - رحمه الله - هذا وما إذا كان المولى حاضرا سواء ، والله أعلم بالصواب . أبي يوسف
هذا الذي ذكرنا ، فأما حكم تعلقه عند الاجتماع بأن اجتمع الدين والجناية فنقول - وبالله التوفيق - حكم تعلق الدين بالرقبة عند الانفراد بأن قتل العبد المأذون رجلا خطأ - وعليه دين - لا يبطل الدين بالجناية ; لأن حكم الجناية في الأصل وجوب الدفع وله سبيل الخروج عنه بالفداء أو التخيير بين الدفع والفداء وهذا لا ينافي الدين ; لأنه يمكنه دفعه متعلقا رقبته بالدين ، وكذا لا ينافيه الفداء لا شك فيه ، فإن اختار الدفع فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه : إما أن حضر أصحاب الدين والجناية معا وإما إن حضر أصحاب الجناية وإما إن حضر أصحاب الدين ، فإن حضر أصحاب الدين والجناية جميعا يدفع العبد إلى أولياء الجناية ثم يبيعه القاضي للغرماء في دينهم ، فإنا إذا دفعناه بالجناية فقد راعينا حق أصحاب الجناية بالدفع إليهم وراعينا حق الغرماء بالبيع بدينهم وإذا دفعناه إلى أصحاب الدين أبطلنا حق أصحاب الجناية لتعذر الدفع بعد البيع إذ الثابت للمشتري ملك جديد خال عن الجناية فكانت البداية بالجناية مراعاة الحقين من الجانبين فكان أولى ثم في الدفع إلى أصحاب الجناية ثم البيع بالدين فائدة وهي الاستخلاص بالفداء ; لأن للناس في أعيان الأشياء رغائب ما ليس في إبدالها ، وإذا دفعه المولى إلى أصحاب الجناية فالقياس أن يضمن قيمته للغرماء ; لأنه يصير ملكا لهم بالدفع فكان الدفع منه تمليكا منهم بمنزلة البيع وفي الاستحسان لا يضمن ; لأن الدفع واجب عليه ومن أتى بفعل واجب عليه لا يضمن ; لأن الضمان يمنعه عن إقامة الواجب فيتناقض ، ثم إذا دفعه إليهم فبيع للغرماء ، فإن فضل عن دينهم شيء من الثمن صرف إلى أصحاب الجناية ; لأن العبد صار ملكا لهم بالدفع إليهم ، وإنما بيع على ملكهم إلا أن أصحاب الدين أولى بثمنه بقدر دينهم فبقي الفاضل من دينهم على ملك أصحاب الجناية كما إذا لم يكن هناك جناية فباعه القاضي للغرماء وفضل من ثمنه شيء أن الفاضل يكون للمولى كذا هذا . إذا اجتمع الدين والجناية
ولو دفعه المولى إلى أصحاب الدين بدينهم إن كان عالما بالجناية لزمه الأرش ; لأنه صار مختارا للفداء ، وإن لم يكن عالما بها يلزمه قيمة العبد ; لأن الواجب الأصلي دفع عين العبد ، وإنما الفداء للخروج عنه بطريق الرخصة على ما بينا ، والدفع من غير علم لا يصلح دليل اختيار الفداء فبقي دفع العين واجبا ، وقد تعدد دفع عينه بالدفع إلى أصحاب الدين فيجب دفع قيمته إذ هو دفع العين معنى ، وإن حضر أصحاب الجناية أولا فكذلك يدفع العبد إليهم ولا [ ص: 206 ] ينتظر حضور الغرماء ; لأنهم لو كانوا حضورا لكان الحكم هكذا فلا معنى للانتظار ، وإن حضر أصحاب الدين أولا ، فإن كان القاضي عالما بالجناية لا يبيعه في ديونهم ; لأن في البيع إبطال حق أصحاب الجناية ، وإن لم يكن عالما بها فباعه بطل حق أصحاب الجناية حتى لو حضروا بعد ذلك لا ضمان على القاضي ولا على المولى أما القاضي فلأنه لا عهدة تلزم القاضي فيما يفعله لكونه أمينا .
وأما المولى فلأنه باعه بأمر القاضي فكان مضافا إلى القاضي ، ولو كان باعه بغير إذن القاضي ، فإن باعه مع علمه بالجناية يلزمه الأرش ; لأنه صار مختارا للفداء ، وإن لم يكن عالما بالجناية يلزمه الأقل من قيمة العبد ومن الأرش لما بينا ، والله تعالى أعلم .