وإن كان فجنايته على نفسه إذا ظهرت لا على مولاه ، فيقع الكلام فيما تظهر به جنايته ، وفي بيان أصل الواجب ، ومن عليه ، وفي بيان كيفية الوجوب ، وفي بيان مقدار الواجب ، وفي بيان صفته . القاتل مكاتبا فقتل أجنبيا خطأ
( أما ) الأول : فجنايته تظهر بما تظهر به جناية القن ، والمدبر ، وأم الولد ، وتظهر أيضا بإقراره بالجناية بخلاف جنايتهم ; لأن ذلك إقرار على المولى فلم يصح أصلا ، وإقرار المكاتب على نفسه ; لأنه أحق بكسبه من المولى فيجوز إقراره .
وكذا يجوز صلحه من الجناية على مال ; لأنه صالح عن حق ثابت له ظاهرا ، ولو أقر وصالح ثم عجز فحكمه نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى .
وأما أصل الواجب بجنايته ، ومن عليه الواجب فالواجب هو قيمة نفسه عليه لا على مولاه ; لأن كسب المكاتب لنفسه لا لمولاه ، فكان موجب جنايته عليه لا على مولاه ليكون الخراج بالضمان ، بخلاف القن ، والمدبر ، وأم الولد ; لأن امتناع الدفع حصل بشيء من قبله ، وهو قبول الكتابة ، فكانت قيمته عليه بخلاف القن ، والمدبر ، وأم الولد .
( وأما ) كيفية الوجوب فقد اختلف أصحابنا فيه قال علماؤنا الثلاثة : إن قيمته تصير دينا في ذمته على طريق القطع ، والبتات ، وفائدة هذا الاختلاف تظهر فيما إذا جنى ثم عجز عقيب الجناية بلا فصل أنه يخاطب المولى بالدفع أو الفداء عندنا ، وعنده يباع ويدفع ثمنه إلى أولياء القتيل .
وكذلك إذا جنى ثم جنى جناية أخرى عقيب الأولى بلا فصل لا يجب عليه إلا قيمة واحدة عندنا ، وعنده يجب عليه قيمة أخرى عقيب الأولى ، ولا خلاف في أنه أنه تجب عليه قيمة أخرى ، ووجه الفرق إذا جنى جناية ، وقضى القاضي عليه بالقيمة ثم جنى جناية أخرى لأصحابنا الثلاثة رحمهم الله أن القاضي لما قضى بالقيمة في الجناية الأولى فقد صارت القيمة دينا في ذمته حتما من غير تردد ، والجناية الثانية صادفت رقبة فارغة فتقضى بقيمة أخرى .
وأما قبل القضاء فالرقبة مشغولة بالأولى ، والمشغول لا يشغل .
( وجه ) قول رحمه الله أن الموجب للقيمة على المكاتب هو امتناع الدفع لحق ثبت للمكاتب بعقد الكتابة ; لأن امتناع الدفع إذا كان لحقه كانت القيمة عليه ، إذ لا خراج مع الضمان ، وهذا المعنى لا يوجب التوقف على قضاء القاضي . زفر
( ولنا ) أن الحكم الأصلي في جناية العبد هو وجوب الدفع ، وامتناعه ههنا لعارض لم يقع اليأس عن زواله وهو الكتابة ، لاحتمال العجز ; لأنه ربما يعجز فيرد في الرق ، فيتبين أن الجناية صدرت من القن فلا يمكن قطع القول بصيرورة قيمته دينا في ذمته إلا من حيث الظاهر ، والأمر في الحقيقة على التوقف ، وإنما يرتفع التوقف بإحدى معان : إما بأداء القيمة إلى ولي القتيل ; لأن الأداء كان واجبا عليه ، فإذا أدى فقد وصل الحق إلى المستحق فلا يسترد منه أو بالعتق ( إما ) بأداء بدل الكتابة ( وإما ) بالإعتاق المبتدأ وبالموت عن وفاء أو ولد ; لأنه يعتق في آخر جزء من أجزاء حياته ، وإذا عتق يتقرر حقه في كسبه ، ويقع اليأس عن الدفع فتتقرر القيمة ، وإذا ترك ولدا ولم يترك وفاء فعقد الكتابة يبقى ببقاء الولد ، فيسعى على نجوم أبيه ، فيؤدي فيعتق ويعتق أبوه ، ويستند عتقه إلى آخر جزء من أجزاء حياته أو بقضاء القاضي بالقيمة ; لأنها كانت واجبة ، وتقرر الوجوب باتصال القضاء به أو بالصلح على القيمة ; لأن الصلح بمنزلة القضاء ، هذا إذا ظهرت جناية بالمعاينة أو بالبينة .
( فأما ) إذا ظهرت بإقراره فإن كان قد أدى القيمة ثم عجز لم يبطل إقراره [ ص: 269 ] ولا يسترد القيمة ; لأنه وصل الحق إلى المستحق فلا يسترد .
وكذا إذا لم يؤد ، ولكنه عتق بأداء بدل الكتابة أو بإعتاق مبتدأ أو بموت المكاتب عن وفاء أو ، ولد لما قلنا ، ولو لم يعتق ، ولكنه عجز ، فإن كان عجزه قبل قضاء القاضي عليه بالقيمة - فإقراره باطل في حق المولى بلا خلاف حتى لا يؤخذ به للحال ، ولكن يتبع به بعد العتاق ، لأنه لما عجز قبل القضاء فقد انفسخ العقد من الأصل ، وعاد قنا كما كان فتبين أنه أقر على مولاه ، وإقرار العبد على المولى باطل إلا أنه يتبع بعد العتاق ; لأن إقراره في حق نفسه صحيح ، وإن كان بعد ما قضى به القاضي عليه بالقيمة - بطل إقراره في حق المولى ، ولا يؤخذ به للحال عند - عليه الرحمة - ويتبع بعد العتاق ، وعندهما لا يبطل إقراره في حق المولى ، ويؤخذ به للحال ، ويباع . أبي حنيفة
وجه قولهما : إن القيمة قد وجبت عليه بإقراره من حيث الظاهر لصحة إقراره ظاهرا أو بقضاء القاضي تقرر الوجوب فلا يحتمل البطلان بالعجز ، كما لو أقر بدين لإنسان ثم عجز ، - رحمه الله - أن صحة إقراره من حيث الظاهر لم تكن لمكان الكتابة ، لأن الداخل تحت الكتابة ما كان من التجارة ، والإقرار بالجناية ليس من التجارة ، وإنما كانت لكونه أحق بكسبه من المولى ، فإذا عجز فقد صار المولى أحق بإكسابه فبطل إقراره ، ولو كان مكان الإقرار صلح بأن جنى المكاتب جناية خطأ فصالح منها على مال جاز صلحه على ما ذكرنا ثم إن كان قد أدى بدل الصلح إلى ولي الجناية أو كان لم يؤد لكنه عتق بأي طريق كان فقد تقرر الصلح ، ولا يبطل ، وإن كان لم يؤد بدل الصلح ، ولا عتق حتى عجز بطل المال عنه في قول ولأبي حنيفة رضي الله عنه ، ويخاطب المولى بالدفع أو الفداء ، وعندهما لا يبطل ، ويصير دينا عليه ، وعلى هذا الخلاف إذا أبي حنيفة إنه يبطل الصلح ، ولا يؤخذ للحال عند قتل المكاتب إنسانا عمدا ثم صالح من دم العمد على مال ثم عجز قبل أداء بدل الصلح ، وعندهما لا يبطل ، ويؤخذ للحال ، ولو كان ولي القتيل اثنين فصالح المكاتب أحدهما دون الآخر سقط القصاص عنه ، وعليه أن يؤدي إلى من صالحه ما صالح عليه ، وينقلب نصيب الآخر مالا فيغرم المكاتب له الأقل من نصف قيمته ، ومن نصف الدية ; لأن الواجب عليه في كل الجناية الأقل من قيمته ، ومن الدية ، فالواجب في نصفها الأقل من نصف قيمته ، ومن نصف الدية اعتبارا للنصف بالكل فإن عجز قبل الأداء فنصيب المصالح لا يؤخذ للحال ، وإنما يؤخذ بعد العتاق . أبي حنيفة
وأما نصيب الآخر فيقال للمولى : ادفع نصف العبد أو افد بنصف الدية على قول رضي الله عنه ; لأن الصلح قد بطل عنده ، وعلى قولهما يدفع نصف العبد أو يفدي بنصف الدية ، والنصف الآخر يباع في حصة المصالح أو يقضي عنه المولى . أبي حنيفة