الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الذي يرجع إلى الموصى له ، فمنها أن يكون موجودا ، فإن لم يكن موجودا لا تصح الوصية ; لأن الوصية للمعدوم لا تصح ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال : أوصيت بثلث مالي لما في بطن فلانة إنها ، إن ولدت لما يعلم أنه كان موجودا في البطن ; صحت الوصية وإلا فلا [ ص: 336 ] وإنما يعلم ذلك إذا ولدت لأقل من ستة أشهر ، ثم يعتبر ذلك من وقت موت الموصي في ظاهر الرواية ، وعند الطحاوي - رحمه الله - من وقت وجود الوصية وجه ما ذكره الطحاوي - رحمه الله - أن سبب الاستحقاق هو الوصية ، فيعتبر وجوده ( وجه ) ظاهر الرواية أن وقت نفوذ الوصية واعتبارها في حق الحكم وقت الموت ، فيعتبر وجوده من ذلك الوقت ; لأنها إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الموت ، أو من وقت الوصية على اختلاف الروايتين تيقنا أنه كان موجودا إذ المرأة لا تلد لأقل من ستة أشهر .

                                                                                                                                وإذا جاءت به لستة أشهر فصاعدا لا يعلم وجوده في البطن لاحتمال أنها علقت بعده .

                                                                                                                                فلا يعلم وجوده بالشك إلا إذا كانت المرأة معتدة من زوجها من طلاق ، أو وفاة ، فولدت إلى سنتين منذ طلقها ، أو مات عنها زوجها ، فله الوصية ; لأن نسب الولد يثبت من زوجها إلى سنتين ، ومن ضرورة ثبات النسب الحكم بوجوده في البطن وقت موت الموصي فرق بين الوصية لما في البطن وبين الهبة لما في البطن أن الهبة لا تصح ، والوصية صحيحة ; لأن الهبة لا صحة لها بدون القبض ، ولم يوجد ، والوصية لا تقف صحتها على القبض .

                                                                                                                                ولو قال : إن كان في بطن فلانة جارية ; فلها وصية ألف وإن كان في بطنها غلام ; فله وصية ألفان ، فولدت جارية لستة أشهر إلا يوما وولدت غلاما بعد ذلك بيومين ; فلهما جميع الوصية ; لأنهما أوصي لهما جميعا لكن لأحدهما بألف وللآخر بألفين ، وقد علم كونهما في البطن أما الجارية ، فلا شك فيها ; لأنها ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت الموصي فعلم أنها كانت موجودة في البطن في ذلك الوقت .

                                                                                                                                وكذا الغلام ; لأنه لما ولد لأكثر من ستة أشهر بيوم ، أو يومين علم أنه كان في البطن مع الجارية ; لأنه توأم ، فكان من ضرورة كون أحدهما في البطن كون الآخر كذلك ; لأنهما علقا من ماء واحد ، فإن ولدت غلامين وجاريتين لأقل من ستة أشهر ، فذلك إلى الورثة يعطون أي الغلامين شاءوا وأي الجاريتين شاءوا إلا أنه ما أوصى لهما جميعا ، وإنما أوصى لأحدهما وليس أحدهما بأولى من الآخر ، فكان البيان إلى الورثة ; لأنهم قائمون مقام المورث ، وقيل إن هذا الجواب على مذهب محمد - رحمه الله تعالى ، فأما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه فالوصية باطلة بناء على مسألة أخرى ، وهو ما إذا أوصى بثلث ماله لفلان وفلان أو أوصى بثلث ماله لأحد هذين الرجلين روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن الوصية باطلة ، وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - أنها صحيحة غير أن عند أبي يوسف الوصية لهما جميعا ، وعند محمد لأحدهما وخيار التعيين إلى الورثة يعطون أيهما شاءوا ، فقاسوا هذه المسألة على تلك ; لأن المعنى يجمعهما ، وهو جهالة الموصى له ، ومنهم من قال : ههنا يجوز في قولهم جميعا وفرق بين المسألتين من حيث إن الجهالة هناك مقارنة للعقد ، وههنا طارئة ; لأن الوصية هناك حال وجودها أضيفت إلى ما في البطن لا إلى أحد الغلامين وإحدى الجاريتين ، ثم طرأت بعد ذلك بالولادة .

                                                                                                                                والبقاء أسهل من الابتداء كالعدة إذا قارنت النكاح منعته من الانعقاد ، فإذا طرأت عليه لا ترفعه كذا ههنا ، ولو قال : إن كان الذي في بطن فلانة غلاما ; فله ألفان ، وإن كان جارية ; فلها ألف ، فولدت غلاما وجارية ، فليس لواحد منهما شيء من الوصية ; لأنه جعل شرط استحقاق الوصية لكل واحد منهما أن يكون هو كل ما في البطن بقوله إن كان الذي في بطنها كذا فله كذا ، وكل واحد منهما ليس هو كل ما في البطن بل بعض ما فيه ، فلم يوجد شرط صحة استحقاق الوصية ، في كل واحد منهما ، فلا يستحق أحدهما شيئا ، بخلاف المسألة الأولى ; لأن قوله إن كان في بطن فلانة جارية ; فلها كذا ، وإن كان في بطنها غلام ; فله كذا ليس فيه شرط أن يكون كل واحد كل ما في البطن بل الشرط فيه أن يكون في بطنها غلام ، وأن يكون في بطنها جارية ، وقد كان في بطنها غلام وجارية ، فوجد شرط الاستحقاق ، وكذلك لو أوصى بما في بطن دابة فلان أن ينفق عليه ، أن الوصية جائزة إذا قبل صاحبها ، وتعتبر فيه المدة على ما ذكرنا هذا هو حكم الوصية لما في البطن ، فأما حكم الإقرار بمال لما في بطن فلانة ، فهذا في الأصل على وجهين ( أما ) إن بين السبب ( وأما ) إن لم يبين بل أطلق ، فإن بين السبب ( فإما ) إن بين سببا هو جائز الوجود .

                                                                                                                                ( وإما ) إن بين سببا هو مستحيل الوجود عادة ، فإن بين سببا هو جائز الوجود عادة بأن قال : لما في بطن فلانة علي ألف درهم ; لأني استهلكت ماله ، أو غصبت أو سرقت ; جاز إقراره في قولهم جميعا ، وإن بين سببا ، هو مستحيل الوجود عادة بأن قال : لما في بطن فلانة [ ص: 337 ] علي ألف درهم لأني استقرضت منه لا يجوز في قولهم جميعا ; لأنه أسند إقراره إلى سبب هو محال عادة ، وإن لم يبين للإقرار سببا بل سكت عنه بأن قال : لما في بطن فلانة علي ألف درهم ، ولم يزد عليه ، فهذا الإقرار باطل في قولهما وعند محمد صحيح .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن تصرف العاقل يحمل على الصحة ما أمكن ; وأمكن تصحيحه بالحمل على سبب متصور الوجود ، فيحمل عليه تصحيحا له ; ولهما أن الإقرار المطلق بالدين يراد به الإقرار بسبب المداينة ; لأنه هو السبب الموضوع لثبوت الدين ، وإنه في الدين ههنا محال عادة ، والمستحيل عادة كالمستحيل حقيقة .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية