الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) أن لا يكون وارث الموصي وقت موت الموصي ، فإن كان لا تصح الوصية لما روي عن أبي قلابة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن الله تبارك وتعالى أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث } وفي هذا حكاية ، وهي ما حكي أن سليمان بن الأعمش - رحمه الله تعالى - كان مريضا ، فعاده أبو حنيفة رضي الله عنه فوجده يوصي لابنيه ، فقال أبو حنيفة : رضي الله عنه إن هذا لا يجوز ، فقال : ولم يا أبا حنيفة فقال : لأنك رويت لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : لا وصية لوارث } فقال سليمان - رحمه الله - : يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة .

                                                                                                                                فقد نفى الشارع عليه الصلاة والسلام أن يكون لوارث وصية نصا .

                                                                                                                                وأشار إلى تحول الحق من الوصية إلى الميراث على ما بينا فيما تقدم ، ولأنا لو جوزنا الوصية للورثة ; لكان للموصي أن يؤثر بعض الورثة ، وفيه إيذاء البعض وإيحاشهم ، فيؤدي إلى قطع الرحم ، وإنه حرام وما أفضى إلى الحرام ، فهو حرام دفعا للتناقض ، ثم الشرط أن لا يكون وارث الموصي وقت موت الموصي لا وقت الوصية حتى لو أوصى لأخيه وله ابن وقت الوصية ، ثم مات قبل موت الموصي ، ثم مات الموصي لم تصح الوصية ; لأن الموصى له ، وهو الأخ صار وارث الموصي عند موته ولو أوصى لأخيه ولا ابن له وقت الوصية ، ثم ولد له ابن ، ثم مات الموصي صحت الوصية ; لأن الأخ ليس بوارثه عند الموت لصيرورته محجوبا بالابن .

                                                                                                                                وإنما اعتبرت الوراثة وقت موت الموصي لا وقت وصيته ; لأن الوصية ليست بتمليك للحال ليعتبر كونه وارثا وقت وجودها ، بل هي تمليك عند الموت ، فيعتبر ذلك عند الموت ، وكذلك الهبة في المرض بأن وهب المريض لوارثه شيئا ، ثم مات إنه يعتبر كونه وارثا له وقت الموت لا وقت الهبة ; لأن هبة المريض في معنى الوصية حتى تعتبر من الثلث .

                                                                                                                                وعلى هذا يخرج ما إذ أوصى لامرأة أجنبية ، وهو مريض أو صحيح ، ثم تزوجها إنه لا يصح ، ولو أقر المريض لامرأة أجنبية بدين ، ثم تزوجها جاز إقراره ; لأن الوصية إنما تصير ملكا عند موت الموصي فيعتبر كونها وارثة له حينئذ ، وهي وارثته عند موته ; لأنها زوجته فلم تصح الوصية ( فأما ) الإقرار فاعتباره حال وجوده وهي أجنبية حال وجوده فاعتراض الزوجية بعد ذلك لا يبطله وكذا لو وهب لها هبة في مرض موته ، ثم تزوجها بطلت الهبة ; لأن تبرعات المريض مرض الموت تعتبر بالوصايا ولو أوصى وهو مريض ، أو صحيح لابنه النصراني صح ; لأنه ليس بوارثه ، فلو أسلم الابن قبل موته بطلت وصيته لما قلنا أن اعتبارها بعد الموت وهو وارث بعد الموت ، ولو أقر المريض بدين لابنه النصراني ، ثم أسلم لم يجز إقراره عند أصحابنا الثلاثة - رحمهم الله - تعالى وعند زفر - رحمه الله تعالى يصح ( وجه ) قوله على نحو ما ذكرنا في المرأة أن الإقرار يعتبر حال وقوعه وإنه غير وارث وقت الإقرار ، فاعتراض الوراثة بعد ذلك لا يبطل الدين الثابت ، كما قلنا في المرأة .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الوراثة ، وإن لم تكن موجودة عند الإقرار لكن سببها كان قائما وهو القرابة لكن لم يظهر عملها للحال لمانع ، وهو الكفر ، فعند زوال المانع يلحق بالعدم من الأصل ، ويعمل السبب من وقت وجوده لا من وقت زاول المانع ، كما في البيع بشرط الخيار إن عند سقوط الخيار يعمل السبب ، وهو البيع في الحكم من ، وقت وجوده لا من وقت [ ص: 338 ] سقوط الخيار ، والجامع أن العامل عند ارتفاع المانع ذات البيع وذات القرابة فتستند السببية إلى وقت وجود ذاته فيظهر أنه أقر لوارثه فلم يصح ، أو يقال إن إقرار المريض لوارثه إنما يرد للتهمة ، وسبب التهمة وقت الإقرار موجود ، وهو القرابة ، بخلاف ما إذا أقر لامرأة أجنبية ، ثم تزوجها ; لأن هناك سبب القرابة لم يكن موجودا وقت الإقرار ; لأن السبب هو الزوجية ، ولم تكن وقت الإقرار ، وإنما وجدت بعد ذلك ، وبعد وجودها لا تحتمل الاستناد ، فيقتصر على حال وجودها ولم يكن ذلك إقرارا لوارثه فيصح ، ويثبت الدين في ذمته ، فلا يسقط بحدوث الزوجية ، وعلى التقريب الثاني لم يوجد سبب التهمة وقت الإقرار فيصح ، ولو كان ابنه مسلما ، لكنه مملوك ، فأوصى له ، ثم أعتق ، فالوصية باطلة لما ذكرنا أن أوان اعتبار الوصية أوان الموت ، وهو وارثه عند الموت .

                                                                                                                                ولو أقر له بالدين وهو مريض ، أو وهب له هبة ، فقبضها ، فإن لم يكن عليه دين ; جاز ذلك ; لأنه إذا لم يكن عليه دين كان الإقرار والهبة لمولاه وإنه أجنبي عن الموصي ، فجاز ، وإن كان عليه دين لا يجوز ; لأن الإقرار والهبة يقعان له لا لمولاه ; لأنه يقضي منه ديونه فتبين أن الإقرار كان لوارثه من طريق الاستناد ، فلا يصح ، أو لا يصح لقيام سبب شبهة التهمة وقت الإقرار ، كما قلنا في الإقرار لابنه النصراني إذا أسلم .

                                                                                                                                ولو أوصى لبعض ورثته ، فأجاز الباقون ; جازت الوصية ; لأن امتناع الجواز كان لحقهم لما يلحقهم من الأذى والوحشة بإيثار البعض ، ولا يوجد ذلك عند الإجازة ، وفي بعض الروايات عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة } ، ولو أوصى بثلث ماله لبعض ورثته ولأجنبي ، فإن أجاز بقية الورثة ; جازت الوصية لهما جميعا .

                                                                                                                                وكان الثلث بين الأجنبي وبين الوارث نصفين ، وإن ردوا ، جازت في حصة الأجنبي ، وبطلت في حصة الوارث .

                                                                                                                                وقال بعض الناس : يصرف الثلث كله إلى الأجنبي ; لأن الوارث ليس بمحل للوصية فالتحقت الإضافة إليه بالعدم ، كما لو أوصى لحي وميت إن الوصية كلها للحي لما قلنا كذا هذا وهذا غير سديد ; لأن الوصية للوارث ليست وصية باطلة بدليل أنه لو اتصلت بها الإجازة جازت ، والباطل لا يحتمل الجواز بالإجازة ، وبه تبين أن الوارث محل للوصية ; لأن التصرف المضاف إلى غير محله يكون باطلا دل أنه محل ، وأن الإضافة إليه وقعت صحيحة إلا أنها تبطل في حصته برد الباقين ، وإذا وقعت صحيحة ، فقد أوصى لكل واحد منهما بنصف الثلث ، ثم بطلت الوصية في حق الوارث بالرد ، فبقيت في حق الأجنبي على حالها ، كما لو أوصى لأجنبيين ; فرد أحدهما دون الآخر ، بخلاف المريض إذا أقر بدين لبعض ورثته ولأجنبي ، كما إذ أقر لهما بألف درهم والوارث مع الأجنبي تصادقا إنه لا يصح لهما الإقرار أصلا لا للوارث ، ولا للأجنبي ; لأن الوصية تمليك ، فبطلانه في حق أحدهما لا يوجب البطلان في حق الآخر ; لأنه لا يوجب الشركة ، والإقرار لهما بالدين إخبار عن دين مشترك بينهما ، فلو صح في حق الأجنبي ; لكان فيه قسمة الدين قبل القبض ، وأنها باطلة ; ولأنه إذا كان إخبارا عن دين مشترك بينهما فالوارث يشارك الأجنبي فيما يقبض ، ثم تبطل حصته وفيه إقرار للوارث وأنه باطل ، بخلاف الوصية ، فإن الوارث لا يشارك الأجنبي .

                                                                                                                                وإذا بطل الإقرار أصلا تقسم التركة بين ورثة المقر فما أصاب الوارث المقر له من ذلك يكون بينه وبين الأجنبي إلى تمام الإقرار وما زاد على ذلك يكون للوارث ; لأنهما إذا تصادقا ، فمن زعمهما أن هذا القدر دين على الميت ، والدين مقدم على الميراث هذا إذا تصادقا ، فإن تكاذبا ، أو أنكر الأجنبي شركة الوارث ، أو رد الورثة إقراره فالإقرار باطل أيضا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - لما ذكرنا ، وإذا بطل كان المال ميراثا بين ورثة المقر ، فما أصاب الوارث ، فهو له كله ولا شركة للأجنبي فيه ; لأنه يكذبه في ذلك وعند محمد يصح إقراره في حق الأجنبي ، ويكون له خمسمائة وإن كان الأجنبي يكذب الوارث ، والوارث يصدقه في ذلك فالخمسمائة مما أصابه للأجنبي ; لأنه لما صدقه الوارث فقد أقر أنه كان له على الميت خمسمائة دين وأنه مقدم على الميراث إلا أنه ادعى الشركة فيه وهو يكذبه في الشركة ، فكان القول قول الأجنبي ، ويأخذ تلك الخمسمائة كلها ، ولو أوصى لعبد وارثه لا يصح سواء كان على العبد دين ، أو لم يكن .

                                                                                                                                ( أما ) إذا لم يكن عليه دين ، فظاهر ; لأن الوصية تقع لمولاه ; لأن الملك يقع له ، فكانت الوصية لوارثه ، وإن كان عليه دين ; فالوصية تقع لمولاه من وجه ; لأنه إذا سقط عنه الدين يصير الموصى به للوارث وقت الوصية فكان وصية للوارث من [ ص: 339 ] وجه ، فلا تصح إلا إذا عتق قبل موت الموصي ، فتصح الوصية ; لأن الوصية إيجاب الملك عند موت الموصي ، وهو كان حرا عند موته .

                                                                                                                                وكذا إذا أوصى لعبد نفسه فأعتقه قبل موته صحت وصيته له ، فإن مات وهو عبد بطلت ; لأن وصيته لمولاه ومولاه وارثه ، ولو أوصى لمكاتب وارثه لا يصح ; لأن منفعة الوصية تحصل لوارثه في الحال والمآل ، في الحال بأداء بدل الكتابة ، وفي المآل بالعجز ، ولو أوصى لمكاتب نفسه جاز ; لأنه ( إما ) أن يعتق بأداء بدل الكتابة ، فيصير أجنبيا ، فتجوز له الوصية ( وإما ) أن يعجز ويرد في الرق ، فيصير ميراثا لجميع ورثته لا لبعضهم دون بعض ، فلا يكون في هذه الوصية إيثار بعض الورثة على بعض ، فتجوز ، كما أوصى بثلث ماله لورثته .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية