[ ص: 81 ] ذكر الألمان إلى الشام وموته وصول ملك
في هذه السنة خرج ملك الألمان من بلاده ، وهم نوع من الفرنج ، من أكثرهم عددا ، وأشدهم بأسا ، وكان قد أزعجه ملك الإسلام البيت المقدس فجمع عساكره ، وأزاح علتهم ، وسار عن بلاده وطريقه على القسطنطينية ، فأرسل ملك الروم بها إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ، ويعد أنه لا يمكنه من العبور في بلاده .
فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينية عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه ، لكنه منع عنهم الميرة ، ولم يمكن أحدا من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم ، فضاقت بهم الأزواد والأقوات ، وساروا حتى عبروا خليج القسطنطينيه ، وصاروا على أرض بلاد الإسلام ، وهي مملكة . الملك قلج أرسلان بن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق
فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمان الأوج ، فما زالوا يسايرونهم ويقتلون من انفرد ويسرقون ما قدروا عليه ، وكان الزمان شتاء والبرد يكون في تلك البلاد شديدا والثلج متراكما ، فأهلكهم البرد والجوع والتركمان فقل عددهم .
فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنعهم ، فلم يكن له بهم قوة ، فعاد إلى قونية وبها أبوه قد حجر ولده المذكور عليه ، وتفرق أولاده في بلاده ، وتغلب كل واحد منهم على ناحية منها .
فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثره فنازلوا قونية ، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا له : ما قصدنا بلادك ولا أردناها ، وإنما قصدنا البيت المقدس ، وطلبوا منه أن يأذن لرعيته في إخراج ما يحتاجون إليه من قوت وغيره ، فأذن في ذلك ، فأتاهم ما يريدون ، فشبعوا ، وتزودوا ، وساروا .
ثم طلبوا من قطب الدين أن يأمر رعيته بالكف عنهم ، وأن يسلم إليهم جماعة من أمرائه رهائن ، وكان يخافهم ، فسلم إليهم نيفا وعشرين أميرا كان يكرههم ، فساروا بهم معهم ولم يمتنع اللصوص وغيرهم من قصدهم [ ص: 82 ] والتعرض إليهم فقبض ملك الألمان على من معه من الأمراء وقيدهم ، فمنهم من هلك في أسره ، ومنهم من فدى نفسه .
وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن ، وصاحبها لافون بن اصطفانة بن ليون ، فأمدهم بالأقوات والعلوفات ، وحكمهم في بلاده ، وأظهر الطاعة لهم ، ثم ساروا نحو أنطاكية ، وكان في طريقهم نهر فنزلوا عنده ، ودخل ملكهم إليه ليغتسل فغرق في مكان منه لا يبلغ الماء وسط الرجل وكفى الله شره .
وكان معه ولد له ، فصار ملكا بعده ، وسار إلى أنطاكية ، فاختلف أصحابه عليه ، فأحب بعضهم العود إلى بلاده ، فتخلف عنه ، وبعضهم مال إلى تمليك أخ له ، فعاد أيضا ، وسار فيمن صحت نيته له ، فعرضهم وكانوا نيفا وأربعين ألفا ، ووقع فيهم الوباء والموت ، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نبشوا من القبور .
فتبرم بهم صاحبها ، وحسن لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكا ، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمون ، وخرج أهل حلب وغيرها إليهم ، وأخذوا منهم خلقا كثيرا ، ومات أكثر ممن أخذ ، فبلغوا طرابلس ، وأقاموا بها أياما فكثر فيهم الموت ، فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل ، فركبوا في البحر إلى الفرنج الذين على عكا ، ولما وصلوا ورأوا ما نالهم في طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد .
وكان يكاتب الملك قلج أرسلان صلاح الدين بأخبارهم ، ويعده أنه يمنعهم من العبور في بلاده فلما عبروها وخلفوها أرسل يعتذر بالعجز عنهم ، لأن أولاده حكموا عليه ، وحجروا عليه وتفرقوا عنه ، وخرجوا عن طاعته .
وأما صلاح الدين عند وصول الخبر بعبور ملك الألمان ، فإنه استشار أصحابه ، [ ص: 83 ] فأشار كثير منهم عليه بالمسير إلى طريقهم ومحاربتهم قبل أن يتصلوا بمن على عكا .
فقال : بل نقيم إلى أن يقربوا منا ، وحينئذ نفعل ذلك لئلا يستسلم من بعكا من عساكرنا لكنه سير بعض من عنده من العساكر منها عسكر حلب وجبلة ولاذقية وشيزر وغير ذلك ، إلى أعمال حلب ليكونوا في أطراف البلاد يحفظونها من عاديتهم .
وكان حال المسلمين . كما قال الله عز وجل : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا فكفى الله شرهم ورد كيدهم في نحرهم .
ومن شدة خوفهم أن بعض أمراء صلاح الدين كان له ببلد الموصل قرية وكان أخي ، رحمه الله يتولاها ، فحصل دخلها من حنطة وشعير وتبن ، فأرسل إليه في بيع الغلة ، فوصل كتابه يقول : " لا تبع الحبة الفرد ، واستكثر لنا من التبن " .
ثم بعد ذلك وصل كتابه يقول : تبيع الطعام فما بنا حاجة إليه ، ثم : إن ذلك الأمير قدم الموصل ، فسألناه عن المنع من بيع الغلة ، ثم الإذن فيها بعد مدة يسيرة ، فقال : لما وصلت الأخبار بوصول ملكالألمان أيقنا أننا ليس لنا بالشام مقام .
فكتبت بالمنع من بيع الغلة لتكون ذخيرة لنا إذا جئنا إليكم ، ولما أهلكهم الله تعالى ، وأغنى عنها كتبت ببيعها والانتفاع بثمنها .