ذكر وقعة للمسلمين والفرنج على عكا   
وفي هذه السنة في العشرين من جمادى الآخرة خرجت الفرنج فارسها وراجلها من وراء خنادقهم ، وتقدموا إلى المسلمين ، وهم كثير لا يحصى عددهم ، وقصدوا نحو عسكر مصر  ، ومقدمهم   الملك العادل أبو بكر بن أيوب  ، وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج ، فالتقوا ، واقتتلوا قتالا شديدا . 
فانحاز المصريون عنهم ، ودخل الفرنج خيامهم ، ونهبوا أموالهم فعطف المصريون عليهم ، فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها . 
وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج ، فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا ، وكانوا متصلين ، كالنمل ، فلما انقطعت أمدادهم ألقوا بأيديهم ، وأخذتهم السيوف من كل ناحية فلم ينج منهم إلا الشريد ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل . 
 [ ص: 84 ] وكانت عساكر الموصل  قريبة من عسكر مصر  ، وكان مقدمهم  علاء الدين خرمشاه بن عز الدين مسعود  صاحب الموصل  ، فحملوا أيضا على الفرنج ، وبالغوا في قتالهم ، ونالوا منهم نيلا كثيرا ، هذا جميعه ، ولم يباشر القتال أحد من الحلقة الخاص التي مع  صلاح الدين  ، ولا أحد من الميسرة ، وكان بها  عماد الدين زنكي  ، صاحب سنجار  وعسكر إربل  وغيرهم . 
ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم ، ولانت عريكتهم ، وأشار المسلمون على  صلاح الدين  بمباكرتهم القتال ، ومناجزتهم وهم على هذه الحال من الهلع والجزع ، فاتفق أنه وصله من الغد كتاب من حلب  يخبر فيه بموت ملك الألمان  ، وما أصاب أصحابه من الموت والقتل والأسر ، وما صار أمرهم إليه من القلة والذلة . 
واشتغل المسلمون بهذه البشرى والفرح بها عن قتال من بإزائهم ، وظنوا أن الفرنج إذا بلغهم هذا الخبر ازدادوا وهنا على وهنهم ، وخوفا على خوفهم ، فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر مع كند كبير من الكنود البحرية يقال له  الكند هري ابن أخي ملك إفرنسيس   لأبيه ، وابن أخي ملك  إنكلتار   لأمه . 
ووصل معه من الأموال شيء كثير يفوق الإحصاء ، فوصل إلى الفرنج ، فجند الأجناد ، وبذل الأموال فعادت نفوسهم فقويت واطمأنت ، وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضا ، فتماسكوا وحفظوا مكانهم . 
ثم أظهروا أنهم يريدون الخروج إلى لقاء المسلمين وقتالهم ، فانتقل  صلاح الدين  من مكانه إلى الخروبة  في السابع والعشرين من جمادى الآخرة ، ليسع المجال ، وكانت المنزلة قد أنتنت بريح القتلى . 
ثم إن  الكند هري  نصب منجنيقا ودبابات وعرادات ، فخرج من بعكا  من المسلمين فأخذوها ، وقتلوا عندها كثيرا من الفرنج ، ثم إن  الكند هري  بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقا ، فلم يتمكن من ذلك لأن المسلمين بعكا  كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق ، فعمل تلا من تراب بالبعد من البلد . 
ثم إن الفرنج كانوا ينقلون التل إلى البلد بالتدريج ، ويستترون به ، ويقربونه إلى البلد ، فلما صار من البلد بحيث يصل من عنده حجر منجنيق ، نصبوا وراءه منجنيقين ،   [ ص: 85 ] وصار التل سترة لهما . 
وكانت الميرة قد قلت بعكا  ، فأرسل  صلاح الدين  إلى الإسكندرية  يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا  ، فتأخر إنفاذها ، فسير إلى نائبه بمدينة بيروت  في ذلك ، فسير بطسة عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه ، وأمر من بها فلبسوا ملبس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان . 
فلما وصلوا إلى عكا  لم يشك الفرنج أنها لهم فلم يتعرضوا لها فلما حاذت ميناء عكا  أدخلها من بها ، ففرح بها المسلمون ، وانتعشوا وقويت نفوسهم ، وتبلغوا بما فيها إلى أن أتتهم الميرة منالإسكندرية    . 
وخرجت ملكة من الفرنج من داخل البحر في نحو ألف مقاتل فأخذت بنواحي الإسكندرية  ، وأخذ من معها ثم إن الفرنج وصلهم كتاب من بابا ، وهو كبيرهم الذي يصدرون عن أمره ، وقوله عندهم كقول النبيين لا يخالف ، والمحروم عندهم من حرمه ، والمقرب من قربه ، وهو صاحب رومية الكبرى  ، يأمرهم بملازمة ما هم بصدده ، ويعلمهم أنه قد أرسل إلى جميع الفرنج يأمرهم بالمسير إلى نجدتهم برا وبحرا ، ويعلمهم بوصول الأمداد إليهم ، فازدادوا قوة وطمعا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					