ذكر التتر إلى أذربيجان وصول
لما هجم الشتاء على التتر في همذان ، وبلد الجبل ، رأوا بردا شديدا ، وثلجا [ ص: 346 ] متراكما ، فساروا إلى أذربيجان ، ففعلوا في طريقهم بالقرى والمدن الصغار من القتل والنهب مثل ما تقدم منهم ، وخربوا وأحرقوا ، ووصلوا إلى تبريز وبها صاحب أذربيجان أوزبك بن البهلوان ، فلم يخرج إليهم ، ولا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلا ونهارا لا يفيق ، وإنما أرسل إليهم وصالحهم على مال ، وثياب ، ودواب ، وحمل الجميع إليهم ، فساروا من عنده يريدون ساحل البحر ، لأنه يكون قليل البرد ، ليشتوا عليه والمراعي به كثيرة لأجل دوابهم ، فوصلوا إلى موقان ، وتطرقوا في طريقهم إلى بلاد الكرج ، فجاء إليهم من الكرج جمع كثير من العسكر ، نحو عشرة آلاف مقاتل ، فقاتلوهم ، فانهزمت الكرج ، وقتل أكثرهم .
وأرسل الكرج إلى أوزبك ، صاحب أذربيجان ، يطلبون منه الصلح والاتفاق معهم على دفع التتر ، فاصطلحوا ليجتمعوا إذا انحسر الشتاء ، وكذلك أرسلوا إلى ، صاحب الملك الأشرف ابن الملك العادل خلاط وديار الجزيرة ، يطلبون منه الموافقة عليهم ، وظنوا جميعهم أن التتر يصبرون في الشتاء إلى الربيع ، فلم يفعلوا كذلك ، بل تحركوا وساروا نحو بلاد الكرج ، وانضاف إليهم مملوك تركي من مماليك أوزبك ، اسمه أقوش ، وجمع أهل تلك الجبال والصحراء من التركمان والأكراد وغيرهم ، فاجتمع ، معه خلق كثير ، وراسل التتر في الانضمام إليهم ، فأجابوه إلى ذلك ، ومالوا إليه للجنسية ، فاجتمعوا وساروا في مقدمة التتر إلى الكرج ، فملكوا حصنا من حصونهم وخربوه ونهبوا البلاد وخربوها ، وقتلوا أهلها ، ونهبوا أموالهم ، حتى وصلوا إلى قرب تفليس .
فاجتمعت الكرج وخرجت بحدها وحديدها إليهم ، فلقيهم أقوش أولا فيمن اجتمع إليه ، فاقتتلوا قتالا شديدا صبروا فيه كلهم ، فقتل من أصحاب أقوش خلق كثير ، وأدركهم التتر وقد تعب الكرج من القتال ، وقتل منهم أيضا كثير ، فلم يثبتوا للتتر ، وانهزموا أقبح هزيمة ، وركبهم السيف من كل جانب ، فقتل منهم ما لا يحصى كثرة ، وكانت الوقعة في ذي القعدة من هذه السنة ، ونهبوا من البلاد ما كان سلم منهم .
ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه : طائفة تخرج [ ص: 347 ] من حدود الصين لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من هذه الناحية ، ويجاوزوا العراق من ناحية همذان ، وتالله لا شك أن من يجيء بعدنا ، إذا بعد العهد ، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ، ويستبعدها ، والحق بيده ، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن ، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة ، استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها ، يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم ، فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم ، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه ، ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن .
هذا العدو الكافر التتر قد وطئوا بلاد ما وراء النهر وملكوها وخربوها ، وناهيك به سعة بلاد ، وتعدت هذه الطائفة منهم النهر إلى خراسان ، فملكوها وفعلوا مثل ذلك ، ثم إلى الري وبلد الجبل وأذربيجان ، وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على بلادهم .
والعدو الآخر الفرنج قد ظهروا من بلادهم في أقصى بلاد الروم ، بين الغرب والشمال ، ووصلوا إلى مصر ، فملكوا مثل دمياط ، وأقاموا فيها ، ولم يقدر المسلمين على إزعاجهم عنها ، ولا إخراجهم منها ، وباقي ديار مصر على خطر ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ومن أعظم الأمور على المسلمين أن سلطانهم خوارزم شاه محمدا قد عدم لا يعرف حقيقة خبره ، فتارة يقال مات عند همذان وأخفي موته ، وتارة دخل أطراف بلاد فارس ومات هناك وأخفي موته لئلا يقصدها التتر في أثره ، وتارة يقال عاد إلى طبرستان وركب البحر ، فتوفي في جزيرة هناك ، وبالجملة فقد عدم ، ثم صح موته ببحر طبرستان ، وهذا عظيم ، إن مثل خراسان وعراق العجم أصبح سائبا لا مانع له ، ولا سلطان يدفع عنه ، والعدو يجوس البلاد ، يأخذ ما أراد ويترك ما أراد ، على أنهم لم يبقوا على مدينة إلا خربوا كل ما مروا عليه ، وأحرقوه ، ونهبوه ، وما لا يصلح لهم أحرقوه ، فكانوا يجمعون الإبريسم تلالا ويلقون فيه النار . وكذلك غيره من الأمتعة .